أَدَاءُ الفَرَائِضِ فِى زَمَنِ الوَبَاءِ ، مَنُوطٌ بالاسْتطَاعَةِ والإِمْكَانِ


بقلم : أ.دجمال مهدي محمود الأكشة

أستاذ ورئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة القانون بطنطا – جامعة الأزهر

جعل الله تعالى من أهم مقاصد الشريعة الضرورية الحفاظ على النفس والدين.
الموافقات للشاطبي(٨/٢).

فالأصل أن يحافظ المسلم على نفسه ودينه معاً دون تعارض، ولكن قد يحدث أمرٌ طارئ يحول دون قدرة المسلم على الجمع بين المحافظة على نفسه ودينه على الوجه الأكمل، كما لو ابتُلِيت الأمةُ بوباءٍ، كما هو الحال وقت انتشار وباء كورونا في شتى أنحاء المعمورة، ففي هذه الحالة يُرَخَّصُ في ترك بعض الفرائض والواجبات؛ خوفاً من انتشار العدوى بين أبناء المجتمع، قياساً على قوله تعالى:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإِيْمَانِ}[النحل: من الآية ١٠٦].

والاحتياط في أداء الفرائض في زمن الوباء يتعلق بالصحيح والمريض، والطبيب المعالج وطائفة التمريض، وكل من يعيش في تلك البلد الموبوءة.

أولاً: بالنسبة للمريض بمرض مُعدِي:

اتفق أهلُ العلم على أن المرض – خاصة المُعدي – يُعدُّ عذراً في ترك الجماعة والجمعة.
الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر(١٣٩/٤).

وبناءً على ذلك فإن المُصاب بوباءٍ مُعدي مثل وباء كورونا يُرَخَّصُ له في ترك الجماعة في المسجد، وكذلك الحكم بالنسبة لصلاة الجمعة، وقد رخص له في ذلك لأمرين:
الأول: المرض الذي يشق معه الذهاب إلى المسجد؛ لما يلحق المصاب من الضرر والحرج بذهابه إلى المسجد غالباً، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: من الآية ٧٨].

وجاء في الفتاوي الهندية: “وتسقط الجماعةُ بالأعذار حتى لا تجب على المريض والمقعد والزَّمِن ومقطوع اليد والرجل من خلاف…”.
الفتاوي الهندية(٨٣/١).

وقال ابن رشد في شأن صلاة الجمعة: “فلا تجب على امرأة، ولا على مريض باتفاق”.
بداية المجتهد(٢٦٤/١)(٢٩٢/١).

وقال ابن قدامة المقدسي: “ويُعْذَرُ في الجمعة والجماعة المريض. قال ابن المنذر: لا أعلمُ خلافاً بين أهل العلم أن للمريض أن يَتَخَلَّفَ عن الجماعات من أجل المرض”.
الشرح الكبير مع المغني(٥٣٠/٢).

وما قرره أهلُ العلم من أن “المشقة تجلب التيسير”
الأشباه والنظائر للسبكي(٤٩/١)، الأشباه والنظائر للسيوطي(ص١٦٠).

وأنه “إذا ضاق الأمر اتسع”.
الأشباه والنظائر للسبكي(٤٩/١).

هذه القاعدة والتي قبلها تدل على أن الشِّدَّةَ والصعوبةَ البدنية والنفسية التي يجدها المكلف عند القيام بالتكليف تصير سبباً شرعياً صحيحاً للتسهيل والتخفيف كي تزول تلك الشدة والصعوبة أو تهون.
المفصل في القواعد الفقهية: د. يعقوب الباحسين(ص٢٠٤).

الثاني: العدوى المصاحبة للمرض دون أعراض، فبعض المصابين بأمراض معدية لا تظهر عليه أعراض لهذه الأمراض، ولا يصعب عليه الذهاب للمسجد لأداء الجمعة والجماعات، لكنه يُعدي غيره.

آثار وباء كورونا على أحكام صلاة الجماعة في المسجد: د. غازي المطرفي(ص١٣٧ – ١٣٨).

وذكرت منظمة الصحة العالمية أن وباء كورونا على سبيل المثال – ينتقل من الشخص المصاب إلى غيره عن طريق القُطيرات الصغيرة التي يفرزها الشخص المريض بكوفيد ١٩ من أنفه أو فمه عندما يسعل أو يعطس أو يتكلم.

وهذه القُطيرات وزنها ثقيل نسبياً، فهي لا تنتقل إلى مكان بعيد وإنما تسقط سريعاً على الأرض؛ لذلك لابد من المحافظة على مسافة متر واحد على الأقل من الآخرين.
وقد تحط هذه القطيرات على الأشياء والأسطح المحيطة بالشخص، مثل الطاولات ومقابض الأبواب ودرابزين السلالم، ويمكن أن يُصاب الناس بالعدوى عند ملامسة هذه الأشياء أو الأسطح ثم لمس أعينهم أو أنفهم أو فمهم.
موقع منظمة الصحة العالمية.

وبناء عليه فإن المصاب بوباء مُعْدِي مثل وباء كورونا إذا ذهب إلى المسجد لأداء الجماعة أو الجمعة، فإنه يُخشى أن يَنقل العدوى إلى غيره من المُصلين بوسائل انتقال العدوى التي سبق ذكرها من خلال ما نُقِل عن منظمة الصحة العالمية في هذا الشأن.

جاء في الفتاوي الهندية: “وتسقط الجماعة بالأعذار حتى لا تجب على المريض ….”.
الفتاوي الهندية(٨٣/١).

قال ابن عبدالبر: “وإذا كان آكل الثوم يُؤمر باجتناب المسجد، وكان في عهد رسول الله – ﷺ – ربما أُخْرِجَ إلى البقيعِ، فما ظنك بالجذام؟ وهو عند بعض الناس يُعْدِي، وعند جميعهم يُؤذِي”.
الاستذكار لابن عبدالبر(٣٥٦/١٣).

وقال النووي: “قال أصحابنا الشافعية من الأعذار في ترك الجماعة: أن يكون به مرض يشق معه المقصد، وإن كان يمكن عليه ضرراً في ذلك وحرجاً، وقال تعالى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.[الحج: من الآية ٧٨].
المجموع للنووي(٢٠٥/٤).

قال ابن حجر الهيتمي: “سبب المنع في نحو المجذوم خشية ضرره، وحينئذ يكون المنع واجباً فيه… لما في ذلك من المصالح العامة، وأن المدار في المنع على الاختلاط بالناس”.
الفتاوى الفقهية الكبرى لابن حجر الهيتمي(٢١٢/١).

وجاء في كشاف القناع: “ويُعذر في ترك الجمعة والجماعة مريض؛ لأنه ﷺ لما مَرِضَ تخَلَّفَ عن المسجد وقال: {مُروا أبا بكر فليصل بالناس}”.
صحيح البخاري(٦٦٤).

ويُعذر في ذلك خائف حدوثه؛ لما روى أبو داود عن ابن عباس أن النبي ﷺ فسَّرَ العذرَ بالخوف والمرض، أو خائف زيادته أي المرض، أو تباطئه؛ لأنه مريض”.
كشاف القناع للبهوتي(٤٩٥/١).

وهناك قواعد فقهية في هذه الشأن:
(١) قاعدة: “الضرر لا يزال بالضرر”.
الأشباه والنظائر لابن نجيم الحنفي(ص٧٤)، الأشباه والنظائر للسيوطي(ص١٧٦).
(٢) قاعدة: “إذا تعارض مفسدتان روعي أعظمهما ضرراً بارتكاب أخفهما”.
الأشباه والنظائر لابن نجيم(٧٦)، الأشباه والنظائر للسيوطي(ص١٧٩).
(۳) قاعدة: “درء المفاسد أولى من جلب المصالح”.
الأشباه والنظائر لابن نجيم(ص٧٨)، الأشباه والنظائر للسيوطي(ص١٧٩).

ثانياً: بالنسبة للأطباء وفريق التمريض [أو ما يسمى بالممارس الصحي] وغيرهم من الأصحاء المخالطين:
يجب على الأطباء وفريق التمريض وكل من يُساهم في علاج مرضى الأوبئة أن يحتاط في عبادته قدر المستطاع، سواء في كيفية الطهارة أو أداء الصلاة، بما يضمن عدم انتقال العدوى إليهم.
فمثلاً الطبيب والممرض يتعذر على كل واحد منهما خلع ملابسه الوقائية عند كل وضوء