حين حلقت الأرواح تبحث عن وجهها – قراءة في منطق الطير


بقلم الأستاذة سيدة حسن

فريد الدين العطار شاعر وعارف فارسي عاش في القرن السادس الهجري وكان من كبار رموز التصوف في العالم الإسلامي جمع بين الشعر والحكمة والذوق الروحي وكان يرى أن الطريق إلى الله هو رحلة تطهير ومعرفة وكان كتابه منطق الطير أعظم أعماله الروحية

منطق الطير ليس كتابا عاديا إنه سفر من أسفار الروح ومرآة صافية تعكس حيرة الإنسان في طريقه إلى الله كتبه فريد الدين العطار على هيئة قصة رمزية جعل فيها الطيور أمة تبحث عن ملكها الغائب السيمرغ وفي الحقيقة ليست الطيور إلا نفوسنا التائهة بين الأرض والسماء تبحث عن معناها وعن الأصل الذي خرجت منه

اجتمعت الطيور ذات يوم وشعرت بالضياع لا ملك يجمعها ولا هدف يوحدها فقام الهدهد وكان رمز المرشد العارف وقال لهم إن لنا ملكا يسمى السيمرغ يقيم وراء جبال قاف البعيدة من رآه لم يعد كما كان ومن عرفه عرف نفسه فهزت الدعوة قلوب الطيور وبدأت الرحلة الكبرى

سألت الطيور الهدهد من يكون السيمرغ فقال لهم السيمرغ هو ملك الملوك الذي لا يُرى إلا بنور البصيرة هو رمز الحق المطلق والحقيقة الإلهية التي لا تُدرك بالعقل وحده بل بالقلب الطاهر الذي ذاب في محبته حتى لم يبقَ فيه إلا هو

لكن كل طائر كشف عن عذره وخوفه الصوفي من الفناء البلبل قال لا أقدر على مفارقة الوردة فهي حبيبتي التي أعيش لأجلها فقال له الهدهد إن الوردة ظل من ظلال الجمال الحقيقي وإن حبك لها محبة ناقصة إذا لم توصلك إلى المحبوب الأول

وجاءت الببغاء مزهوّة بريشها الزاهي وقالت أريد أن أخلد بجمال صورتي فقال الهدهد إن الجمال الذي يزول ليس جمالا وإن من عبد المظهر حُجب عن الجوهر

أما الطاووس فبكى وقال كنت في الجنة وطُردت منها فكيف أطمع في العودة فقال له الهدهد لا يدخل الجنة من تعلق بها وإنما من أحب خالقها فارجع إلى الله لا إلى الجنة

وجاءت البطة متذرعة بالطهارة وقالت مكاني في الماء طاهر ولا أخرج منه فقال لها الهدهد الطهارة ليست في الماء ولكن في القلب ومن خاف التلوث لم يعرف التطهير الحقيقي

ثم جاءت اليمامة وكانت رمز العين البصيرة والقلب الموجوع كانت تبكي حبيبا غاب عنها وتخشى أن تنساه لو رحلت قالت للهدهد تركت بين الأركان طيفه فكيف أطير فقال لها إن الحبيب الذي غاب عنك لم يكن سوى ظل للحبيب الأزلي وإن من بكى لفقد الخلق فليبكِ شوقا إلى الخالق فبكت أكثر لكنها طارت كانت دمعتها أول توبة في الطريق وكانت اليمامة تمثل البصيرة التي ترى ما وراء الأفق لكنها تتألم لأنها تعلم أن الرؤية وحدها لا تكفي وأن القلب لا بد أن يسير

انطلقت الطيور بعد ذلك تخوض سبع وديان كل واد منها امتحان للنفس وعبور نحو الفناء في المحبوب وديان الطلب والعشق والمعرفة والاستغناء والتوحيد والحيرة والفناء في النهاية كل وادٍ كان يذيب شيئا من الأنا ويقربها من الحقائق

الطير التي واصلت لم تكن كما بدأت وبعضها سقط في الطريق وبعضها عاد إلى أوهامه لكن جماعة قليلة بلغت القصر الإلهي وعندما دخلت لم تجد السيمرغ الموعود بل وجدت مرآة فرأت وجوهها فيها فعرفت أن السيمرغ هو هي وأن الملك الذي بحثت عنه يسكن في داخلها لا في مكان بعيد وهنا قال العطار كلمته الخالدة من عرف نفسه عرف ربه

السيمرغ كلمة فارسية قديمة سي مرغ أي ثلاثون طائرا وفي نهاية الرحلة لم يصل إلا ثلاثون طائرا فلما نظروا في المرآة رأوا أنفسهم وعرفوا أن السيمرغ هو مجموعهم وأن من طلب الله وجده في ذاته وأن الطريق إليه لم يكن إليه بل به

منطق الطير يعلمنا أن الرحلة إلى الله ليست هربا من الدنيا ولكن عودة إلى الحقيقة وأن كل طائر هو رمز لحال من أحوال البشر فمنهم من يعشق الصورة ومنهم من يخاف ومنهم من يسكن في الحنين ومنهم من يرى ولا يسير

يقول العطار في بعض مقاطعه إن الطريق طويل لا يقصره إلا الحب وإن الحروف كلها تنكسر عند اسم الله وإن من لم يحترق لا يضيء ومن لم يذق لا يعرف

وفي قوله أيضا ما معناه من ظن أن الوصول يكون بالقدم أخطأ فالسير بالروح ومن ظن أن المحبة كلام جهل فالمحبة نار لا تُطاق

منطق الطير ليس حكاية عن طيور ضلت طريقها بل هو عنّا جميعا نحن الذين نحلق بين الغياب والرجاء نبحث عن وجهنا في مرآة السيمرغ فإذا وصلنا أدركنا أن الطريق لم يكن إلى الله بل كان بالله