الدعاء عند قبور الأنبياء والأولياء والصالحين بين تواتر السلف، واعتراف الأئمة والعلماء عبر العصور

بقلم الشيخ : نور عبدالبديع حسين حمودة الأزهرى الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية

 تمهيد :

من المعلوم أن زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصالحين كانت من شعائر الأمة على مر العصور، لما تحمله من معانٍ سامية: تذكير بالآخرة، وتوقير لأهل الفضل، وتوسل بالصالحين إلى الله تعالى.

وقد نصّ العلماء المتقدمون والمتأخرون على استحباب الدعاء عند قبورهم، لما فيها من بركةٍ ظاهرة وتجربةٍ متواترة.

أقوال الأئمة في استحباب الدعاء عند القبور :

قال الإمام النووي في الأذكار (ص: 142، ط. دار الفكر):
“ويُستحب الإكثار من الزيارة، وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل.”

وقال الإمام ابن الجزري صاحب الحصن الحصين: “وجُرِّب استجابة الدعاء عند قبور الصالحين.”
نقله الإمام الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص: 74).

وذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر: “كثُر ضجيجي من مرضي، وعجزتُ عن طبِّ نفسي، فلجأتُ إلى قبور الصالحين وتوسلتُ بصلاحهم، فاجتذبني لطف مولاي إلى الخلوة، وردَّ قلبي عليَّ بعد نفورٍ.”

من فعل الصحابة والتابعين :

روى الإمام مالك في الموطأ أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “كان إذا أراد سفرًا أو قدم من سفر، جاء قبر النبي ﷺ فصلى عليه ودعا ثم انصرف.”

وقال الإمام محمد بن الحسن: “هكذا ينبغي أن يفعله من قدم المدينة، يأتي قبر النبي ﷺ فيسلم ويدعو.”
(التعليق الممجد على الموطأ للحافظ اللكنوي)

وسأل الخليفة أبو جعفر المنصور الإمام مالكًا: “أأستقبل القبلة وأدعو، أم أستقبل رسول الله ﷺ؟”

فقال الإمام مالك كلمته الخالدة:
“ولِمَ تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله؟ بل استقبله واستشفع به فيُشَفِّعه الله فيك.”
(الشفا للقاضي عياض، 2/42)

وقال الزرقاني في شرح المواهب اللدنية (12/195):
“كتب المالكية طافحة باستحباب الدعاء عند القبر الشريف مستقبلًا له، مستدبرًا القبلة، وقد نص على ذلك القابسي وابن عبد الرحمن والعلامة خليل وغيرهم.”

آثار السلف والعلماء في الدعاء عند القبور :

روى ابن حبان في صحيحه أن أسامة بن زيد رضي الله عنه دعا عند حجرة عائشة، فلما عاتبه مروان قال: “إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله يبغض الفاحش البذيء.”

وروى الدارمي بسندٍ صحيحٍ عن أبي الجوزاء: أن أهل المدينة أصابهم قحط، فشكت عائشة رضي الله عنها وقالت: “انظروا إلى قبر النبي ﷺ فاجعلوا منه كِوى إلى السماء.” فلما فعلوا أُمطروا مطرًا غزيرًا حتى سُمِّي عام الفتق.
وقد بوّب الدارمي لذلك بقوله: باب ما أكرم الله نبيه بعد موته.

من أقوال أئمة الإسلام في بركة الدعاء عند القبور

قال أبو نعيم الأصبهاني في معرفة الصحابة: “رأيت جماعة من أهل العلم والفضل، إذا همّ أحدهم بأمر، قصد قبر النبي ﷺ فدعا عنده، فيكاد يعرف الإجابة.”

وقال الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (10/106):
“الدعاء مستجاب عند قبور الأنبياء والصالحين، بل وعند قبر السيدة نفيسة رضي الله عنها.”

وقال الإمام ابن حبان في الثقات (8/14411):
“زرت قبر علي بن موسى الرضا مرارًا، وما نزلت بي شدة إلا دعوت الله عنده فاستجاب لي، وهذا شيء جربته مرارًا.”

وروى ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب (7/339):
أن الإمام ابن خزيمة زار قبر الإمام الرضا بطوس، “فرأينا من تعظيمه للبقعة وتضرعه عندها ما تحيرنا له.”

تبرك العلماء بالأولياء

قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “إني لأتبرك بأبي حنيفة، وأجيء إلى قبره كل يوم، فإذا عرضت لي حاجة صليت ركعتين، وجئت إلى قبره وسألت الله تعالى عنده، فما تبعد عني حتى تُقضى.”
(تاريخ بغداد، 1/445)

وقال ابن الجزري عن قبر الشافعي: “قبره بقرافة مصر مشهور، والدعاء عنده مستجاب.”
وقال الذهبي في ترجمة معروف الكرخي: “قبر معروف الترياق المجرَّب.”
أي: موضع تُستجاب فيه الدعوة، كالأماكن المباركة في السحر أو في المساجد.

كرامات مشهورة ومجربة

قال المحاملي: “عرفت قبر معروف الكرخي منذ سبعين سنة، ما قصده مهموم إلا فرّج الله همَّه.”
(تاريخ بغداد)

وذكر ابن الملقن في طبقات الأولياء: “قبره ترياق مجرب، يستسقي به الناس، ويُقضى عنده الدعاء.”

وقال ابن حجر العسقلاني في رفع الإصر: “الدعاء عند قبر بكّار مستجاب.” بَكَّار بن قِتادة العِجلي أو بَكَّار بن عبد الله المزني، وكلاهما من العبّاد الصالحين المشهورين بالزهد والعبادة، وكان له قبر معروف في البصرة يُزار للدعاء عنده.
وذكر السخاوي في الضوء اللامع: “الدعاء عند قبر أبي الحسن الآدمي مستجاب.”

وقال ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب: “قال النووي: سمعنا الشيوخ يقولون: الدعاء عند قبر نصر المقدسي يوم السبت مستجاب.”

كرامة الإمام البخاري رحمه الله

ذكر ابن بشكوال في الصلة: أن القحط أصاب سمرقند، فخرج القاضي والناس إلى قبر الإمام البخاري بخرتنك، فاستسقوا عنده، وتشفعوا بصاحبه، فأرسل الله مطرًا غزيرًا حتى غمرت السيول الأرض سبعة أيام، وسُمِّي ذلك العام عام الغيث المبارك.

الخاتمة
لقد أجمع العلماء والفقهاء والمحدثون — من مختلف المذاهب — على أن الدعاء عند قبور الأنبياء والأولياء والصالحين مشروع مستحب، لما في تلك المواطن من بركةٍ ظاهرة، ومقاماتٍ جليلة أكرم الله بها عباده الصالحين.

فليس في ذلك غلوٌّ ولا ابتداع، بل هو عمل الأمة خلفًا عن سلف،ومن حرمه فقد حُرم الخير الكثير، نعوذ بالله من الحرمان بعد البيان، ومن الخذلان بعد الإيمان