رحلة العابرين من التيه إلى اليقين


المقالة الثانية من سلسلة ( رحلة القلوب إلى الله )
بقلم الدكتورة : إيمان إبراهيم عبد العظيم
مدرس بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر – واعظة بوزارة الأوقاف

في زمنٍ تتسارع فيه الأيام، وتتراكم فيه الهموم كالجبال ، ويعلو فيه ضجيج الحياة حتى يكاد يطغى على صوت الفطرة… و سجية النقاء و يهوي بها إلى وادٍ سحيق كان هناك إنسان، يبتعد عن الله، يتوه في دروب الحياة ينتابه صراع داخلي، يبحث عن معنى ،لم يكن شريرًا، ولا جاحدًا… بل فقط تائه مغترب النفس تائه بين شاشات متنوعة لا تنام، وقلوب لا تهدأ، وأفكار لا ترحم، مغترب النفس فيما له و ما عليه، و ذاته الضائعة بين كل ما سبق، يمضي يومه منشغلًا بكل شيء فهو في سباق لا ينتهي إلا روحه التائهة في زحام دوامة الحياة. ، شعر فجأة أنه تائه… ليس عن طريقٍ، بل عن نفسه.

كل يوم يبدأ وينتهي بلا معنى. يضحك، لكنه لا يشعر بالفرح. ينام، لكن قلبه لا يهدأ. تحيطه وجوه كثيرة، لكنه في داخله… وحيد جدًا.
و هذا هو التيه الحقيقي…

فهو لم يكن عاصيًا بمعنى الكلمة، لكنه ترك الصلاة منذ سنوات، ظنًّا أنها “ليست ضرورية الآن”. لم يقرأ القرآن إلا نادرًا، ومع كل انشغال جديد، دفن صوته الداخلي

و ذات ليلة انطلقت الشرارة الأولى في رحلة التيه و الصراع الداخلي عندما جلس شاردًا وحيدًا هو و نفسه.

و تبادر السؤالٌ إلى ذهنه:
“ماذا لو متُّ الآن؟”
لم يكن السؤال جديدًا، لكنه في تلك الليلة كان مختلفًا.

أخذ يتذكر أيام طفولته، حين كان يدعو الله ببراءة، يصلي بخشوع، ويبكي خوفًا من النار و شوقًا للجنة.

تسير الأمور من حوله، و يتغيّر كل شيء… لكنه لم يكن سعيدًا.

كان يعيش، نعم، لكنه بلا حياة.

و كانت البداية الحقيقية
عندما توضأ لأول مرة بعد غياب عن الصلاة ، فشعر أن الماء يغسل قلبه لا يديه و لا وجهه فقط.

فتح المصحف، و بدأ القراءة وإذا بآية كأنها كُتبت له، كأنها ناقوس يدق في عالم النسيان و يحمل البشرى و الأمل و الاطمئنان:
“قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ…” (الزمر:٥٣)

بكى كأنه يسمعها لأول مرة.

وشعر أن الله لم ينسه أبدًا… بل كان ينتظره

و هنا كانت نقطة التحول
لم يتحول من التيه إلى اليقين من ليلةٍ واحدة، لكنه بدأ.
صلاة الفجر صارت له موعدًا، و صار القرآن له رفيقًا، ولم تختفِ الذنوب كلها… لكنها بدأت تضعف.

كان كلما تعثر، عاد إلى الله.

وكلما أخطأ، استغفر الغفور الرحيم.

علم أن الله لا يريد الكمال، بل يريد الصدق في العودة إليه.

لقد انتهى زمن التيه… و حان زمن العودة في ظل كل مغريات الحياة و تقلباتها، في عالمٍ امتلأ بالصخب، والتشتت، والشك… لقد وجد غايته وجد في الإيمان سكونًا.

وفي التوبة معنى.

وفي الله وطنًا لا يُهدم، وملجأ لا يُغلق، وحبيبًا لا يخذل.
قد تكون أنت أو أنا هذا الإنسان… أو شخص تعرفه.

لكن اعلم:
مهما ابتعدنا، الله أقرب إلينا مما نتصور أقرب إلينا من حبل الوريد.
العودة إلى رب العالمين لا تحتاج أوراقًا، ولا مواعيد… فقط “نية داخلية” و”خطوة جدية”.

وستجده يفتح لك أبواب السماء كلها. ستدرك حينها أن التيه لم يكن في الخارج… بل في قلبك. وأن اليقين ليس وهمًا، بل هو نورٌ يهبه الله لمن يطلبه بصدق.

“وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ” (البقرة:١٨٦)

رحلة الإنسان من التيه إلى اليقين هي الرحلة الحقيقية …
هي رحلة من الظلمة إلى النور،

من الحيرة إلى الطمأنينة.

و ختامًا: ” الرجوع إلى الله… راحة لا توصف إذا كنت في زمن التيه فاعلم أن الله ينتظرك بلطفه فقط أقبل”.