في وداع الدكتور أحمد عمر هاشم.. عالم حمل هم الأمة
8 أكتوبر، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم أ.د: مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية بجامعة الأزهر
برحيل فضيلة الدكتور أحمد عمر هاشم فقدت الأمة أحد كبار علمائها الذين جمعوا بين نور العلم وصدق الرسالة، وعمق الفكر ونقاء السيرة، وحين يرحل العلماء، تبكيهم القلوب قبل الأقلام، فهم ينتقلون من مرأى البصر إلى عمق البصيرة، والكتابة عنهم استحضار لفيض من المعاني التي تترجم وحدة العلم والأخلاق، والفكر والعمل، لقد كانت سيرة الدكتور أحمد عمر هاشم (رحمه الله)، صفحة ناصعة من الصفاء والإخلاص، وكتابًا مفتوحًا يقرؤه الناس في سكون تواضعه وصدق عطائه، فقد مثل نموذج العالم الذي جمع بين المعرفة والورع، والعقل والخلق، فحول العلم إلى عبادة، والكلمة إلى رسالة، والتعليم إلى أثر خالد في الوجدان، وظل شاهدًا على أن الرسوخ في العلم لا يكتمل إلا حين يقترن بالتقوى والتواضع وخدمة الناس.
ولد الدكتور أحمد عمر هاشم في بيئة أزهرية أصيلة حملت روح القرآن، وتشرب منذ صغره حب العلم وخدمة الدين، درس في جامعة الأزهر، وتدرج في مناصبها حتى أصبح رئيسًا لجامعتها وعضوًا في هيئة كبار العلماء، فكان امتدادًا لتاريخ طويل من العلماء الذين جمعوا بين العلم والعمل، والفقه والبصيرة، واتسم منهجه منذ بداياته بوضوح الرؤية وصدق الانتماء، وكان العلم لديه رسالة للإصلاح، وميدانًا لإحياء الضمير الإنساني، عرف بتواضعه وقدرته على مخاطبة العقول والقلوب، ولقد آمن بأن العالم الحق هو من ترجم علمه في سلوكه، فيكون الخلق تجسيدًا للفكر، والسلوك ترجمةً للمعرفة، ومن هنا جاءت مكانته في القلوب من إخلاص وصدق وتجرد لله تعالى.
وتميز فكر الدكتور أحمد عمر هاشم بروح الوسطية الواعية التي تشكل لب الرسالة الأزهرية في مواجهة موجات التطرف والانغلاق، فالاعتدالية عنده منهجًا فكريًا وأخلاقيًا أصيلًا يستمد جذوره من القرآن الكريم والسنة النبوية، ويوازن بعمق بين الثابت والمتغير في الفهم والتطبيق، وكان يرى أن الإسلام دين العقل والرحمة والتكامل، وأن جوهر رسالته هو بناء الإنسان في ضوء الوعي والإيمان، لذلك حمل على عاتقه مسؤولية صون المعنى الأصيل للدين من التشويه والغلو، عبر إعادة تقديمه في صورته الإنسانية الرحبة التي تعيد للإنسان صلته بخالقه، وتنمي وعيه بذاته، وتفتح قلبه للتواصل مع الآخرين في رحاب المحبة والتسامح.
وجمع الدكتور أحمد عمر هاشم (رحمه الله) في خطابه الدعوي بين العمق الشرعي والبصيرة الاجتماعية، فكان يحذر من خطر الخطاب المتعصب الذي يعزل الناس عن واقعهم، وينأى بالدين عن مقاصده الكبرى في الإصلاح والعمران، وكان يؤكد أن الدعوة الصادقة هي التي تصل النص بالسياق، والعلم بالعمل، لأن الدين رسالة وعي وبناء وبهذا الفهم أعاد فضيلته الاعتدال إلى مكانه الطبيعي كقوة بناء ومنهج إصلاح، يعيد التوازن إلى الفكر الديني ويواجه الانحراف بالحجة والبرهان.
وقد تجلى هذا المعنى في سلوكه العملي ومواقفه العلنية والخاصة؛ فكان مثالًا للأخلاق القرآنية تواضع جم، ورفق بالناس، وسماحةٌ لا تنفصل عن الصرامة في الحق، وكان يردد دائمًا) العلم بلا أخلاق لا ينفع، والأخلاق بلا علم لا تهدي)، وهكذا جمع بين العلم والعمل في تناغمٍ لا انفصام فيه، وجعل من سيرته شاهدًا على أن العالم الحقّ هو من يجمع بين الفكر والخلق، وبين الفقه والرحمة، وقد انعكس هذا البعد الإنساني في حضوره الإعلامي أيضًا، فكان صوتًا للعقل والرحمة في الخطاب الديني العام، يدعو إلى التسامح، ويذكر الناس بأخلاق النبي ﷺ قبل البعثة وبعدها، وكأنه يعيد إلى الوعي الجمعي روح الإسلام الأولى التي تقوم على الصدق والبر والرحمة والإنسانية.
وكان الدكتور أحمد عمر هاشم (رحمه الله) مؤمنًا بأن حماية الهوية الوطنية فريضة دينية ومسؤولية أخلاقية، حيث رأى أن صون ثوابت الأمة هو جزء من صيانة الدين ذاته؛ لذلك وقف بثبات في وجه كل من حاول العبث بالثوابت أو جر المجتمع إلى صراعات فكرية تضعف وحدته وتمزق نسيجه، وقد تجلى وعيه الوطني العميق في دعوته الدائمة إلى الاصطفاف حول الدولة المصرية ومؤسساتها الوطنية، إدراكًا منه أن استقرار الوطن شرط لبقاء الرسالة الدينية واستمرار الدعوة في بيئة آمنة ومثمرة، وقد عبر عن هذه الرؤية بلغة رصينة تجمع بين العمق الفقهي والولاء الوطني، فكان يؤكد أن العالم الحق يسهم في حماية وعي أمته من الفوضى الفكرية والروحية، وأن الدفاع عن الوطن جزء من رسالة العلماء في صون القيم، وحراسة الضمير الجمعي، وبناء وعي يوازن بين الإيمان والولاء والانتماء.
وقد امتد أثر الدكتور أحمد عمر هاشم (رحمه الله)، في أجيال متعاقبة من الطلاب والعلماء الذين تتلمذوا على يديه واستقوا من علمه وسيرته نماذج سامية في الالتزام والبحث والأخلاق، فكان يرى في التعليم رسالة تربوية تتجاوز حدود التلقين إلى بناء الضمير والفكر، فغرس في طلابه حب الحقيقة وشغف المعرفة، ودعاهم إلى التفكير النقدي المنضبط بالقيم، وإلى النظر في مقاصد النصوص لا في ظواهرها فحسب، لقد كان نموذجًا فريدًا للمعلم الرسالي الذي يؤمن بأن العلم عبادة، والتعليم جهاد في سبيل الوعي، ومن خلال عطائه المتصل، تجلى المعنى الحقيقي للأزهر الشريف كمؤسسة علمية وثقافية وإنسانية، تنير العقول بنور المعرفة، وتهذب الأرواح بجلال الإيمان، وتؤكد أن التربية الحقة هي التي تبني الإنسان علمًا ووجدانًا وسلوكًا.
رحل الشيخ الجليل جسدًا، غير أن الرحيل لم يطفئ نوره، ولم يغب صوته عن الذاكرة، فآثاره تنبض بالحياة في كتبه التي تفيض بالحكمة، ومحاضراته التي تشهد على سعة علمه وصفاء بصيرته، وتلاميذه الذين يحملون راية الاعتدال والإصلاح امتدادًا لنهجه القويم، فالكلمة الصادقة لا تموت، والعالم الذي يحمل في قلبه محبة الله والناس يظل حيًا ما دامت القيم تنبض في القلوب، والضمائر تستضيء بنور الحق، وسيظل شيخنا الراحل منارة يهتدى بها في ظلمات الفكر، ودليلًا على أن الدين إذا اقترن بالعلم والأخلاق صار نورًا يهدي وميزانًا يعدل، يضيء العقول كما يزكي النفوس.
ولقد جسد فضيلته معنى قوله تعالى ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾،
فرفع الله ذكره بعلمه، وخلد أثره بخلقه، وجعل له في القلوب مقامًا رفيعًا، فطوبى لمن عاش للحق ومات على البصيرة، وترك للأمة علمًا نافعًا وذكرًا طيبًا وأثرًا خالدًا في وجدانها ما دام في الناس من يوقر العلم ويحمل مشعل الحكمة.