منهج التعددية الفقهية وأثره في بناء آراء فقيهية متوازنة
12 سبتمبر، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الشيخ : صالح علي صالح الفقي
الموجه العام بوعظ الأزهر الشريف – ومشرف لجان فتوى الأزهر بمنطقة وعظ كفر الشيخ سابقا
الحمد لله الذي جعل الشريعة وافية بمصالح العباد، صالحة لكل زمان ومكان، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ، المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
تُعدّ التعددية الفقهية من أبرز خصائص الفقه الإسلامي، إذ عبّرت عن سَعة النصوص الشرعية، وعن قدرة الاجتهاد على استيعاب واقع الناس وظروفهم المختلفة. وتأتي أهمية هذا المنهج في العصر الحاضر حيث تتجدد النوازل وتتعقد القضايا، مما يقتضي فقهًا متوازنًا يجمع بين الأصول والمقاصد.
مفهوم التعددية الفقهية وأصولها:-
التعددية الفقهية تعني: وجود اجتهادات متنوّعة في استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة التفصيلية، تبعًا لاختلاف مدارك العلماء وطرائقهم في النظر والاستدلال.
وقد أقرّ النبي ﷺ هذا التنوع العملي؛ إذ قال لأصحابه في غزوة بني قريظة: «لا يُصلِّيَنَّ أحد العصر إلا في بني قريظة» [البخاري، 946]، ففهم بعضهم التعجيل بالصلاة في الطريق، وفهم آخرون تأخيرها حتى الوصول، ولم يعنّف النبي ﷺ أحدًا منهم. وهذا أصل في اعتبار التعدد في الفهم والاجتهاد.
أما الأئمة الكبار فقد رسّخوا هذا المنهج، ومن أقوالهم المشهورة: قول الشافعي: «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب» [الذهبي، سير أعلام النبلاء، 10/29].
*آثار التعددية الفقهية في ضبط الفتوى والاجتهاد:
تكوين ملكة الإنصاف: الفقيه الذي يطالع اختلاف الأئمة يدرك أن الحق قد يتوزع في أقوال عدة، فيبتعد عن الجمود والتعصب.
توسيع دائرة النظر: الاختلاف الفقهي يتيح للمجتهد المعاصر أن يستفيد من تنوع المناهج: أهل الحديث في قوة الاستدلال بالنص، وأهل الرأي في فقه التعليل والقياس، وأهل الأصول في ضبط المناهج الكلية.
إعطاء بدائل فقهية: حين يواجه الناس مشقة في حكم معيّن، فإن التعددية تتيح التماس الرأي المعتبر الذي يرفع الحرج، وهو ما يوافق مقاصد الشريعة في التيسير ورفع المشقة [انظر: الشاطبي، الموافقات، 2/136].
التعددية الفقهية ومراعاة النوازل المعاصرة:
لقد واجه الفقه الإسلامي منذ بداياته نوازل متجددة: من معاملات مالية، ومسائل طبية، وأحكام اجتماعية. وكان الفقهاء يستعينون بالتعددية لترجيح ما يناسب أحوال الناس.
واليوم، تزداد الحاجة إلى ذلك، في قضايا البنوك، وزراعة الأعضاء، وتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالمفتي الذي ينفتح على تراث المذاهب، ويستوعب اختلافهم، يكون أقدر على تقديم حلول شرعية منضبطة، بعيدة عن الانغلاق أو التسيّب.
ومن ثمرة المنهج في بناء آراء متوازنة:
-تظهر ثمرة التعددية الفقهية في بناء فقيه متزن: لا يجمُد على قول واحد فيعجز عن معالجة الواقع.
-ولا يتسيّب فيتخير بلا ضابط.
بل يوازن بين النصوص ومقاصدها، وبين المذاهب واجتهاداتها، وبين حاجات الناس ومصالحهم. وهذا هو المنهج الذي سار عليه كبار الأئمة الموسوعيين كابن عبد البر (التمهيد، 1/63) وابن دقيق العيد (إحكام الأحكام، 1/5).
وفي الختام يتضح أن التعددية الفقهية ليست مصدر ضعف أو انقسام، بل هي من دلائل الرحمة والمرونة في الشريعة، ومن أسباب خلودها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. وإن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى فقهاء يستوعبون هذا التنوع، ليستخرجوا منه أحكامًا راسخة متوازنة، تجمع بين الأصول والمقاصد، وتراعي اختلاف الأحوال وتجدّد النوازل. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78].