سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر بقلم الأستاذ : مهدى صالحى
تعدّ المنظومة الأخلاقية القيمية حقيقة فطرية تسري على الإنسانية ومن ثوابت القانون الإلــهي التكويني المعقول الذي يحكم سيرورة الوجود البشري رغم التنوع؛فما من شريعة أريد بها الإصلاح إلالتتويج المنحى الأخلاقي بجعله منهاجا عمليا يهدي الضمير الإنساني إلى أرقى المراتب.
غير أن التقنيات الحديثة وعولمة الاتّصال أحدثت تغيّرا جذريا في الخيارات العالمية وفي المفاهيم حتى تحوّلت تلك السلوكيات الحضارية التنويرية إلى قوالب نظرية مجرّدة لاسيما في الفضاء العربي الإسلامي الذي تواجهه موجة من الأزمات الأخلاقية من القاعدة إلى القمّة؛إذ لابد من إيجاد مقاربة تطبيقية بديلة ذات مرجعية فقهية مقاصدية تؤسس لمشروع أخلاقي إسلامي يرنو إلى تقديم صورة نموذجية بنائية عن مقاصد التشريع الإسلامي حتى يتحرّر العقل المغاير من الصورة النمطية السائدة عن واقع المسلمين ومن الاعتقاد الضيق حول حقيقة الإسلام بأنه دين يكرّس للنزعة الإقصائية والاعتداء المادي والمعنوي على إنسانية الإنسان،وعسى أن ترسّخ هذه المقاربة المقاصدية القيم الإسلامية في كيان العصر أوالواقع وذلك بصناعة وعي إسلامي ينطلق من المقاصد منفتحا على الأنموذج الأخلاقي الياباني الذي هو في جوهره أنموذج إسلامي تجسّد في تصرفات النبوة؛فالعقل الياباني اتخذ من “الأخلاق” مادة تدريسية أساسية لتنشئة ذهن المتعلم منذ نعومة أظفاره على مبادئ أخلاقية لأنها جزء من الخصوصية الثقافية اليابانية وممارساتهم اليومية ومن رهانات المنظومة التربوية للارتقاء بواقعهم. ولعل هذا ماتوجّهت به أمّ الإمام مالك بن أنس حينما كانت تحثّه على ضرورة التحلي بالأدب الرفيع لأنه شرط إلزامي لنجاعة مسيرته العلمية قائلة له:”تعلّم الأدب قبل أن تتعلّم العلم”.
وتأسيسا على هذه التفاعلية بين الحس الجمالي المترتّب عن حسن الأدب والعملية التعليمية التربوية فإن الوعي المقاصدي المصلحي بروح التشريع في شموله يتبلور حول تلك المنظومة القيمية السلوكية للارتقاء بالواقع الاجتماعي مع تنزيل مقصد التيسير ورفع الحرج والمشقة بما أن بعثة النبوة قد عللت بأنها مدرسة تربوية للتنشئة القيمية بلاعنت ولاتعنّت على المتعلم مصداقا للحديث النبوي:إن الله لم يبعثني معنّتا ولامتعنّتا ولكن بعثني معلّما ميسّرا “
وفي ذلك تجلّ للنزعة المقاصدية الأخلاقية التي تتجاوز الفهوم السطحية السائدة لتعاليم النبوة بدافع القراءة الحرفية لنصوص الوحي التي تنطوي على أبعاد تربوية كامنة في أحكام العبادات والمعاملات ،فالبعد المصلحي التربوي لعبادة الصوم هو تزكية الجانب الروحي بالقيم الجمالية المؤلّفة للوحدة الإنسانية ولأرقى أنموذج في المعاملات الاجتماعية مصداقا لقوله ﷺ:”من لم يدعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”.
وبما أن المقصد العام من التشريع هو جلب المصالح الدنيوية والأخروية ودرء الأضرار الدنيوية والأخروية، والمصلحة هي إسعاد المكلّف فّإن التشريع يضع المقصد العام والخاص ويترك وسائل تطبيقه للاجتهاد في ضوء التقدم التكنولوجي وبناء على قاعدة:الوسائل لها أحكام المقاصد والمقاصد أعلى رتبة من وسائلها فهل أن منظومة القيم الإسلامية هي مقاصد تهدف ّإليها الشريعة أم هي وسائل لبلوغ تلك المصلحة المشروعة وهي إسعاد المكلف في الدارين؟
إن مكارم الأخلاق من مقاصد الشارع والتكليف فقد عًلّلت البعثة النبوية تعليلا مصلحيا كبثّ الرحمة والقيم في وجدان العصر،أما الأدلة من السنّة على أن الأخلاق وسيلة لمقصود شرعي قطعي فهي:
*قوله ﷺ:أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خُلقا: (محبة الله لعبده مقصد وسيلته الأخلاق)
*قوله ﷺ:إنّ من أحبّكم إليّ وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا:(مصلحة أخروية وهي نيل منزلة رفيعة بجوار النبي ﷺ )
*قوله ﷺ:مامن شيء في الميزان أثقل من حسن الخُلق(مصلحة أخروية وهي نيل الحسنات وسيلتها الأخلاق الحسنة)
قولهﷺ:إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجات قائم الليل صائم النهار(مصلحة أخروية وهي مضاعفة الأجر وسيلتها حسن الخلق)
قولهﷺ:حسن الخلق وحسن الجوار :يعمّران الديار،ويزيدان في الأعمار:(مصلحة دنيوية وهي زيادة العمر وعمارة البيت بالنماء والبركة وهذا المقصد وسيلته حسن الأخلاق )