
بقلم المفكر الإسلامى د: أحمد سليمان أبو شعيشع
الأستاذ بجامعة كفر الشيخ – وخادم الساحة المنهلية
تمهيد
منذ قرون طويلة ظل المسلمون يفخرون بانتمائهم إلى منهج أهل السنة والجماعة، وهو المنهج الذي أسسه الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، وحفظته الأمة عبر المذاهب الفقهية الأربعة والمدارس العقدية الكبرى (الأشاعرة والماتريدية وأهل الحديث). لكن منذ القرن الثامن عشر الميلادي، ظهر تيار جديد في الجزيرة العربية سُمّي لاحقاً بـ”السلفية”، ثم امتد وانتشر في العالم الإسلامي تحت مسميات مختلفة: وهابية، دعوة التوحيد، السلفية العلمية، السلفية الجهادية… إلخ.
هؤلاء رفعوا شعار “العودة إلى منهج السلف الصالح”، لكن عند التحقيق يتبيّن أنهم لم يلتزموا بمنهج السلف، بل استعملوا المصطلح لتسويق فكر خاص، لا سند له في التاريخ العلمي للأمة.
أولاً: من هم السلف الصالح حقيقة؟
-
السلف الصالح مصطلح إسلامي أصيل، يقصد به القرون الثلاثة الأولى من الإسلام: الصحابة، التابعون، وتابعو التابعين. وقد شهد لهم النبي ﷺ بالخيرية:
“خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم” (صحيح البخاري، كتاب فضائل الصحابة).
-
منهجهم كان يقوم على:
-
اتباع الكتاب والسنة بفهم جامع بين النصوص.
-
الاجتهاد بالرأي الصحيح عند الحاجة.
-
احترام اختلاف الفقهاء.
-
نبذ التكفير للمسلمين.
وقد ورث هذا المنهج الأئمة الأربعة (أبو حنيفة، مالك، الشافعي، أحمد) ومن تبعهم، وأجمع المسلمون أن مذاهبهم الأربعة تمثل الامتداد الشرعي للسلف.
ثانياً: نشأة “السلفية الحديثة”
ظهرت “السلفية” كحركة متميزة في القرن الثامن عشر مع محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ) في نجد.
-
كتابه التوحيد جعل أغلب ما مارسه المسلمون عبر قرون من التوسل وزيارة الأولياء والاحتفال بالمولد النبوي “شركاً أكبر”.
-
تحالف مع آل سعود سياسيًّا وعسكريًّا، وأسس دولة فرضت هذا الفهم بالقوة.
تطور الفكر
-
القرن 19: بقيت “الوهابية” محصورة في نجد.
-
القرن 20: بفضل أموال النفط انتشرت عبر المدارس والبعثات والدعاة.
-
القرن 21: انقسمت إلى مدارس: سلفية علمية، مدخلية، جهادية (القاعدة، داعش).
إذن: السلفية الحديثة وليدة القرن 18، لا تمتد إلى القرون الأولى، بخلاف ادعائها.
ثالثاً: هل لهم سند حقيقي إلى السلف؟
-
غياب السند العلمي
-
السلفية لم تُعرف كسلسلة علمية متصلة: لا نجد “إجازات” متصلة لمحمد بن عبد الوهاب إلى أحد الأئمة الأربعة في كتبه.
-
في المقابل: المذاهب الأربعة لها أسانيد موثقة:
-
الحنفية إلى أبي حنيفة (ت 150هـ).
-
المالكية إلى مالك (ت 179هـ).
-
الشافعية إلى الشافعي (ت 204هـ).
-
الحنابلة إلى أحمد (ت 241هـ).
-
-
الاعتماد على مصطلح فضفاض
-
حين يُسأل السلفي: من هو “السلف” الذين تتبعهم؟ يجيب: الصحابة والتابعون.
-
لكن عملياً، ما يطبقه هو اجتهاد ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو الألباني أو ابن باز.
-
أي أنهم قدّسوا مشايخهم المعاصرين، بينما اتهموا الأمة كلها بالابتداع.
-
موقفهم من المذاهب
-
السلفية ترفض التقليد للمذاهب الأربعة، وتدعو إلى “الاجتهاد المباشر”.
-
لكن السؤال: من الذي نقل لنا الدين والحديث والفقه عبر 14 قرناً؟ أليست المذاهب والأسانيد؟
-
فإذا رفضوا المذاهب، فعن من أخذوا الصلاة والصيام والزكاة؟
رابعاً: أدلة على أنهم ليسوا على منهج السلف
أ. السلف لم يكفّروا المسلمين
-
الإمام أحمد – الذي يُنسب إليه الحنابلة – لم يكفّر من خالفه في القول بخلق القرآن، رغم أن القضية خطيرة.
-
لكن السلفية كفّروا عموم الأمة بالبدع والشركيات.
ب. السلف لم يرفضوا المذاهب
-
الأئمة الأربعة هم “السلف”، والسلفية اليوم تهاجم التقليد لهم، وتصفه بالبدعة.
-
هذا تناقض صريح: إذ كيف ترفض أعظم ما خلّفه السلف من فقه وأصول؟
ج. غياب المرجعيات
-
ابن عبد الوهاب لم يترك كتباً حديثية مسندة، بل جمع آيات وأحاديث بغير سياقها.
-
الألباني ضعّف أحاديث اتفق الحفاظ على صحتها، بلا سند من علماء الحديث المتقدمين.
-
هذا يثبت أنهم يعتمدون على اجتهاد شخصي معزول، لا على تراث الأمة.
خامساً: السلفية والهوى الشخصي
-
يقدّسون أقوال مشايخهم المعاصرين كابن باز والألباني والعثيمين، ويجعلونها حَكَماً نهائياً.
-
من خالفهم اتهموه بالبدعة أو الإرجاء أو التصوف المذموم.
-
بينما يدّعون أنهم “أهل الدليل”، مع أنهم يرفضون إجماع الأمة في كثير من القضايا.
سادساً: أدلة موثقة ومراجع
-
محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية: يؤكد أن الوهابية حركة محدثة في القرن 18، لا صلة مباشرة لها بالسلف.
-
عبد الحليم محمود (شيخ الأزهر)، قضية التصوف: يذكر أن السلفية تنكر ما عليه الأمة كلها من محبة الأولياء.
-
رشيد رضا، المنار: رغم دعمه الأولي للإصلاح، انتقد غلو الوهابية في التكفير.
-
جلبير الأشقر، الناس والنفط والإرهاب: يوضح كيف موّلت أموال النفط نشر الفكر الوهابي عالمياً.
-
محمد جابر الأنصاري، تحولات الفكر العربي: يبين أن السلفية الحديثة صناعة سياسية أكثر منها امتداداً للسلف.
سابعاً: السلفية = ادعاء بلا برهان
-
لا يوجد نص من السلف الصالح يوافق على تكفير الأمة بسبب التوسل أو زيارة القبور.
-
لا يوجد سند متصل من الوهابية إلى القرون الثلاثة الأولى.
-
لا يوجد اعتراف من علماء الأمة الكبار بهم، بل العكس: الأزهر، الزيتونة، القرويين، رفضوا فكرهم عبر القرون.
الخاتمة
السؤال: هل السلفية الحالية هي منهج السلف الصالح؟
الإجابة: لا.
-
هم استخدموا الاسم فقط، لكنهم تركوا جوهر المنهج.
-
حكموا بالهوى، وقدّسوا مشايخهم، ورفضوا الأئمة الأربعة الذين نقلوا لنا الدين.
-
نشأت دعوتهم في القرن 18 بدوافع سياسية أكثر من كونها دينية.
-
لا يملكون سنداً حقيقياً متصلاً إلى السلف، بل مجرد شعارات.