السلفية والتصوف: بين ظاهر النصوص ونور المحبة
2 سبتمبر، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

بقلم المفكر الإسلامى د: أحمد سليمان أبو شعيشع
الأستاذ بجامعة كفر الشيخ – وخادم الساحة المنهلية
تمهيد
حين نعود إلى تاريخ الإسلام نجد أن التيارات الفكرية الكبرى داخل الأمة كانت تبحث – بطرق مختلفة – عن القرب من الله تعالى. لكن مع مرور الزمن، ظهرت اتجاهات متباينة في منهج الفهم والتطبيق:
-
السلفية التي ترفع شعار العودة إلى الكتاب والسنة بفهم السلف، ولكنها في كثير من مدارسها وقعت في فخ الجمود على ظاهر النصوص، وتكفير المخالف، واتهامه بالابتداع والفسق.
-
التصوف الذي نشأ من رحم الزهد والورع، فجعل أساسه محبة الله ورسوله، وتهذيب النفس، والتسامح مع الناس، فلم يعرف عنه أنه ولّد جماعات إرهابية، بل كان في معظم تاريخه ملجأً للروح الباحثة عن الطمأنينة.
هذه المقارنة ليست الغرض منها الشحناء، بل محاولة لفهم: لماذا يختار الناس التصوف ويتركون السلفية؟ وما الذي جعل التصوف مدرسة في الحب والرحمة، بينما أنتجت بعض المدارس السلفية جماعات متطرفة؟
أولاً: السلفية وظاهر النصوص
السلفية في أصلها دعوة لإحياء السنّة ونبذ البدعة، لكن المشكلة الكبرى التي وقعت فيها كثير من جماعاتها هي الجمود على ظاهر النصوص، ورفض التأويل، وعدم إدراك مقاصد الشريعة.
-
يقول ابن تيمية (ت 728هـ) في مجموع الفتاوى: “من قال في الدين برأيه أو بما لا يعلم، فهو من أهل الأهواء.”
هذا النص صحيح في محله، لكن المتشددين من السلفيين جعلوا أي اجتهاد أو تأويل من باب الرأي المذموم.
-
وبهذا جرى تكفير الأشاعرة والماتريدية والصوفية، بل حتى عموم المسلمين الذين يتوسلون أو يزورون قبور الأولياء.
-
في كتب محمد بن عبد الوهاب (ت 1206هـ)، مثل كتاب التوحيد، نجد أحكاماً متشددة على أعمال اعتبرها المسلمون عبر القرون من باب المحبة والذكر، فصارت في نظر الوهابية “شركاً أكبر” يستوجب القتل.
نتائج هذا الفهم
-
تقسيم الأمة إلى “موحّد” و”مشرك”.
-
انتشار فتاوى التكفير والبدعة.
-
إلغاء مساحة الخلاف الفقهي والكلامي التي عرفها المسلمون قروناً.
ثانياً: التصوف وفهم النصوص بروح المحبة
أما التصوف، فقد اتخذ طريقاً آخر. لم يقف عند ظاهر النصوص فقط، بل جمع بين الظاهر والباطن.
-
يقول الجنيد (ت 297هـ): “طريقنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، لكن بباطنها قبل ظاهرها.”
-
ويقول أبو يزيد البسطامي: “أخذوا العلم ميتاً عن ميت، وأخذنا العلم عن الحي الذي لا يموت.”
المتصوفة لم ينكروا ظاهر النصوص، لكنهم نظروا إلى العمق: كيف يثمر النص محبة؟ كيف يهذب النفس؟ كيف يفتح باب القرب من الله؟
-
حين يقرأ السلفي قوله تعالى: ﴿فاذكروني أذكركم﴾ [البقرة: 152] يراه أمراً للسان.
-
بينما الصوفي يرى أنه أمرٌ للقلب والجوارح كلها: أن تذكره بلسانك، وتذكره بجوارحك، وتذكره بخضوعك وخشيتك.
ثالثاً: السلفية والتطرف – نماذج
لم يكن كل سلفي إرهابياً، لكن كثيراً من الحركات المتطرفة خرجت من رحم السلفية بسبب حرفية الفهم والتعصب للمذهب.
-
القاعدة
-
خرجت من رحم “السلفية الجهادية” التي تأسست على فكر سيد قطب المتأثر بالوهابية.
-
أخرجت المسلمين من دائرة الإسلام إذا لم يوافقوها، واستباحت دماء الأبرياء بحجة “موالاة الكفار” أو “ترك الحكم بما أنزل الله”
-
داعش (تنظيم الدولة)
-
رفعت شعار “التوحيد”، لكنها ذبحت المسلمين قبل غيرهم.
-
فجّرت المساجد والمراقد، بدعوى أنها “قباب شركية”.
-
قامت على فكر سلفي متشدد أخذ نصوص القتال خارج سياقها، وأهمل مقاصد الشريعة في حفظ النفس والدين والعقل.
-
جماعة بوكو حرام في نيجيريا
-
تعتمد على المنهج السلفي الوهابي.
-
ترفض التعليم الحديث وتعتبره “كفراً”، فقتلت الآلاف باسم “تطبيق الشريعة”.
الخلاصة: كل هذه الجماعات خرجت من رحم السلفية، وتربّت على فتاوى التكفير والبدعة.
رابعاً: التصوف ولماذا لم يُنتج إرهاباً؟
التصوف في تاريخه الطويل لم يُسجل أنه أخرج جماعة إرهابية.
-
الطرق الصوفية كالقادرية، الشاذلية، النقشبندية، التيجانية، وغيرها، انتشرت في العالم الإسلامي قروناً طويلة.
-
كان دورها الأساس تهذيب النفوس، نشر العلم، خدمة المجتمع.
-
حين واجهت الاستعمار، قاومت بروح الجهاد المشروع، مثل مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري (صوفي قادرّي) ضد الفرنسيين، أو عمر المختار السنوسي ضد الطليان. لكن هذا الجهاد كان مشروعاً، ولم يتحول إلى إرهاب أعمى ضد المدنيين.
السبب: لأن التصوف يربي على المحبة. فالمتصوف يرى الخلق جميعاً عيال الله، ويؤمن أن الرحمة مقدمة على الغلظة، وأن محبة الله لا تنسجم مع كراهية عباده.
خامساً: لماذا يختار العقلاء التصوف ولا يختارون السلفية؟
-
الروحانية والتقرب إلى الله
-
التصوف يمنح الإنسان غذاء روحياً عميقاً، عبر الذكر والخلوة والمحاسبة.
-
بينما السلفية تركز على “الحلال والحرام” والجدل الفقهي، دون غذاء روحي يكفي لطمأنينة النفس.
-
التسامح والانفتاح
-
التصوف يتسع للجميع. قال ابن عربي: “قلبي قابل لكل صورة؛ مرعى لغزلان ودير لرهبان…”
-
أما السلفية، فغالباً ما تحصر النجاة في فهمها هي وحدها.
-
التهذيب والسلوك
-
المتصوف يربي نفسه على الصدق، التواضع، الزهد.
-
بينما السلفي المتشدد يربي نفسه على “الغيرة على التوحيد” ولو بالغلظة على الناس.
-
رفض التعصب
-
التصوف يترك أمر القلوب إلى الله: ﴿لستَ عليهم بمصيطر﴾ [الغاشية: 22].
-
السلفية كثيراً ما تُلزم الناس بما تراه، ومن خالفها فهو “مبتدع”.
-
التراث الثقافي
-
التصوف جزء من تاريخ المجتمعات الإسلامية: في المغرب، مصر، السودان، تركيا، آسيا الوسطى.
-
السلفية دخيلة في كثير من هذه البلاد عبر المال النفطي في القرن العشرين.
-
الشعور بالانتماء
-
الطرق الصوفية تقدم دفء الجماعة، حلقات الذكر، الموالد، الزيارات، فتجعل الإنسان جزءاً من أسرة روحية.
-
السلفية غالباً جافة، فردية، لا طقوس فيها إلا الدروس والخطب.
-
الابتعاد عن السياسة
-
التصوف بقي بعيداً عن الصراعات السياسية في أغلب تاريخه.
-
السلفية المعاصرة ارتبطت بالحركات السياسية، من الوهابية في نجد إلى السلفية الجهادية الحديثة.
سادساً: شهادات ومراجع
-
عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي: يؤكد أن التصوف حركة روحية لم تُنتج عنفاً.
-
عبد الحليم محمود (شيخ الأزهر): التصوف هو لب الإسلام، ولا يتعارض مع الكتاب والسنة.
-
محمد أبو زهرة: يذكر أن الوهابية أفرطت في التكفير.
-
جلبير الأشقر، الناس والنفط والإرهاب: يبين كيف دعمت أموال النفط انتشار الفكر الوهابي الذي غذّى القاعدة وداعش.
الخاتمة
إن اختيار التصوف على السلفية ليس مجرد خيار مذهبي، بل خيار بين:
-
دينٍ غليظ يجعل صاحبه قاضياً على قلوب الناس، يوزع صكوك التبديع والتكفير.
-
دينٍ رحيم يفتح أبواب المحبة، ويرى في كل إنسان مخلوقاً لله يستحق الرحمة.
ولهذا وجدنا أن جماعات السلفية المتشددة تحولت إلى بؤر للتطرف والإرهاب، بينما التصوف على مرّ القرون لم يُنتج إرهاباً، بل أنتج أولياء وعلماء وشعراء وحكماء.