النبي محمد -ﷺ- وسيرته في عيون مستشرق
1 سبتمبر، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم الدكتور : طلعت أبو حلوة
لقد اعتاد بعض المستشرقين أن يكتبوا عن شخصية النبي محمد -ﷺ- وحياته وسيرته وسنته ودعوته، واختلفت كتابات هؤلاء الكتاب في درجة الإنصاف ما بين معتدل منصف ومُفَرِّط حاقد، ومن هؤلاء الكتاب المستشرق الفرنسي إميل دِرْمِنْغَم (1)، حيث صدر له عن النبي كتاب بعنوان “حياة محمد”(2) وقد ترجم إلى العديد من اللغات كالإنجليزية والألمانية والعربية، وترجمه إلى اللغة العربية شيخ المترجمين العرب الأستاذ/ عادل زعيتر(4)، وقد كان إميل دِرْمِنْغَم في هذا الكتاب -مع ما وُجِدَ عنده من زَلّات- من أكثر المستشرقين اعتدالًا في كتابته، يقول الأستاذ/ عادل زعيتر: “والأمر مهما يكن فإن كتاب “حياة محمد” الذي أَلَّفَه الأستاذ/ إميل دِرْ مِنْغَم، والذي نَعْرِض ترجمته، أكثرُ الكتب التي أَلَّفَها الغربيون عن الرسول الأعظم اعتدالًا، فقد حاول فيه أن يؤلف سيرة ناطقة صادقة للنبي مستندًا إلى أقدم المصادر العربية غَيْرَ غافل عما جاء في الكتب الحديثة”(5).
وإنه من حسن الطالع أن يترافق نشر هذا المقال مع شهر ذكرى ميلاد النبي محمد -ﷺ- المبعوث هداية ورحمة للعالمين، وكأننا نقول بلسان الحال والمقال: أيها النبي الكريم إن قَدْرَكَ العظيم مما لا يخفى على أحد، ومما يتعدى نطاقُه إلى غير أتباعك المؤمنين بك؛ ليشمل المتطلعين إلى صفات الخير والحب والجمال، والذين رأوا في سيرتك ومسيرتك تجسيدًا حيًّا دائمَ الإشعاعِ لعظيم الصفات، ومستمرَّ الإفاضةِ والإمداد بأفضل العطاءات.
ومن يتتبع كتابات إميل دِرْمِنْغَم في كتابه هذا عن النبي محمد -ﷺ- وسيرته ودعوته يجد أنها قد اتسمت في كثير من الأحيان بالموضوعية والإنصاف والاعتدال، وقد جاءت مؤيدة في كثير من الأحيان بالأدلة والبراهين من القرآن الكريم والسنة النبوية والسيرة والتاريخ، وخير ما تكون الشهادة حينما تأتي من مخالف محايد أو عدو منصف، ولله دَرُّ السَّرِيِّ الرَّفَّاء حيث قال:
وشمائلٌ شَهِدَ العدوُّ بفَضْلِها … والفضلُ ما شَهِدَتْ به الأعداءُ(6)
وانطلق إميل دِرْمِنْغَم في كتابته من موقف الإعجاب بسيرة النبي ﷺ، وما تقدمه حياته من نموذج فريد وقيم سامية، محاولاً الاقتراب من الروايات الصادقة، ومبتعدًا عما تنسجه وترسمه كتابات بعض الغربيين من خيالات وأكاذيب وافتراءات عن السيرة العطرة وصاحبها الأعظم ﷺ، يقول: “وإذا كانت كلُّ نفس بشريّة تنطوي على عِبْرَةٍ، وإذا كان كلُّ موجود يشتمل على عِظَةٍ، فما أَعْظَمَ ما تثيره فينا حياةُ رجلٍ يؤمن برسالته فريقٌ كبيرٌ من بني الإنسان!”(1).
ونفى دِرْمِنْغَم الشَّكَّ في إخلاص النبي ﷺ، وذكر أن تصرفات حياته، وعظيمَ أخلاقه، ونُبْلَ شمائله، شاهدٌ على صدق رسالته وحسن سيرته، فقال: “ولا يستطيع أحدٌ أن يَشُكَّ اليومَ في إخلاص محمد، فحياة محمد شاهدةٌ على اعتقادِه صدقَ رسالتِه التي حَمَلَ أمانتَها الثقيلةَ ببطولة. وإن قوةَ إبداعِه، وعبقريتَه الواسعةَ، وذكاءَه العظيمَ، وبصرَه النافذَ الحديدَ، وقدرتَه على ضبط نفسه، وعَزْمَه المكينَ، وحذرَه، وحسنَ تدبيره، ونشاطَه، وطرازَ عيشه؛ مما يمنع عَدَّ ذلك المُوحَى إليه الموهوبَ الجَلِيَّ مُبْتَلًى بالصَّرْعِ”(2).
ويذكر دِرْمِنْغَم أن الحياة الزوجية للنبي محمد -ﷺ- مع زوجه خديجة -رضي الله عنها- كانت تتسم بالسعادة والحب والنموذجية والوفاء والإخلاص فيقول: “كان بيت محمد عنوانَ السعادة الزوجية والفضائل المنزلية، وكانت خديجةُ مَثَلَ الزوجات الأعلى، وكان محمد أكمل الأزواج، وقد ظَلَّ محمد وفيًّا لخديجة رُبْعَ قَرْنٍ مع أنها كانت أكبرَ منه سنًّا، فكانت عاملةً له بكل ما يقوم به النساء مجتمعات، فكانت له الزوجةَ المحبةَ، والأمَّ الصديقةَ والمخلصةَ التي تَقَرُّ بها العين”(3).
وذكر أن ما اتُّهِمَ به الإسلام من ظلم المرأة، وهضم حقوقها، ما هو إلا ضرب من المزاعم الخاطئة الفاسدة، والأغاليط الفاحشة المنكرة، وأن الأمر بالعكس، حيث كَرَّمَ الإسلامُ المرأةَ، وصانها، وضمن لها حقوقها فقال: “ومن المزاعم الباطلة أن يقال: إن المرأة في الإسلام قد جُرِّدَتْ من نفوذها زوجةً وأُمًّا … فعلى الإنسان أن يطوف في الشرق ليرى أن الأدب العائليّ فيه قويٌّ متينٌ … ولم يكن العالمُ الإسلاميُّ ليجهل الحبَّ المنزليَّ والحبَّ الروحيَّ”(4).
وذكر دِرْمِنْغَم أيضًا أن ما ذكره بعض المستشرقين من أفكار مغلوطة عن الإسلام وكتابه ونبيّه والمسلمين، وما شَنُّوه من أكاذيب وحملات تشويه، وما نسجوه من أساطير وخيالات فاسدة، ما هو إلا نتيجة كراهية وأحقاد على الإسلام وكتابه ونبيّه والمسلمين، فيقول: “وقد ظلت الأحقاد والخرافات تُحاكُ حولَ الإسلام، فقد وُصِفَ محمدٌ زَمَنَ رودولف دولودهيم (620م) إلى يومنا هذا من قِبَلِ نيقولا دوكوز وفيفيز ومراتشي وهوتنجر وبيلياندر وبريدو وغيرهم بأنه دَجّالٌ، ووُصِفَ الإسلام بأنه مجموعةُ إلحادٍ وضلالات وبأنه من عمل الشيطان، وبأن المسلمين من الوحوش، وبأن القرآن نسيجٌ من الأباطيل … ولا تزال تَرَى للإسلام حتى اليوم ثالبين(1) متعصبين”(2).
وأشاد دِرْمِنْغَم بما انفرد وتَمَيَّزَ به النبي -ﷺ- وحققه من نجاح رائد ومنقطع النظير في جمع شمل المجتمع المدني، والتأليف بين أجناسه وأطيافه، وإقامة دولة الإسلام في المدينة منذ استقراره بها فقال: ” استقر محمد بالمدينة فاستطاع أن ينظم شئون العبادة بالتفصيل، وأقام في جزيرة العرب مجتمعًا على أُسُسٍ جديدة بعيدة من عصبيات القبائل والعشائر، مما لم يَصْنَعْ مِثْلَهُ مؤسسو الديانات إلا نادرًا، فكان محمدٌ بذلك الرسولَ والمشترعَ والسياسيَّ والقائدَ في آنٍ واحد”(3).
وإذا كان دِرْمِنْغَم قد قرر على حد تعبيره بأن “تاريخ البشرية مجموعة من الوحي والإلهامات … وشأن الأنبياء في العالم كشأن قُوَى الطبيعة الكبيرة الهائلة النافعة”(4)، أي أن تاريخ البشرية مليء بسير الأنبياء والرسالات، وأن تأثير هؤلاء الأنبياء وتلك الرسالات في إصلاح البشرية ونفعها كشأن قوى الطبيعة النافعة، فقد أفاد بأن دَوْرَ النبي محمد -ﷺ- الذي يعد امتدادًا لأدوار من سبقه، كان أعظمَ الأدوار نفعًا وأكثرَها تأثيرًا، حيث قال: “وكان ظهور محمد في دَوْرٍ من أشد أدوار التاريخ ظلامًا، في دَوْرٍ كانت الحضاراتُ التي قامت في البلدان الممتدة من بلاد المغول إلى بلاد الهند مضطربةً متداعيةً”(5)، وأوضح بأن النبي غَيَّرَ بدعوته هذا المشهد المظلم إلى نور مُشْرِق فقال: “وهكذا نهض محمد؛ ليدعوَ قومَه إلى دين الواحد الأحد، وليُنَبِّهَ غافل َبعض آسية وإفْرِيقِيَّة، وليحرر من رِقِّ التقليد جميعَ الذين يدركون حقيقةَ رسالته، وليجددَ بلادَ فارس الناعسةَ، وليَحُثَّ نصرانيّةَ الشرق التي أفسدتها التأملات الفاترة، والتي حَلَّها غَيْرُ ملتحمِ الإيمان”(6).
وأشار دِرْمِنْغَم إلى الأثر الذي أحدثه النبي محمد -ﷺ- بدعوته في إصلاح الحياة الاجتماعية فقال: “وكان للدعوة المحمدية في جزيرة العرب أثرٌ عظيمٌ ثابتٌ في تقدُّمِ الأسرةِ والمجتمعِ والصحةِ، فقد حَسُنَ بها مصير المرأة، وحُرِّم بها الزنا والمتعةُ وحياةُ الغرامِ، ومُنِعَ بها إکراهُ القِيَانِ(7) على البِغاءِ لإثراء سادَتِهِنَّ. والإسلامُ -وإنْ أباح الرِّقَّ- نَظَّمَ أحكامَه؛ فَعَدَّ فَكَّ الرقابِ من الحسنات، ومُكَفِّرًا لبعض السيئات”(1).
ونفى دِرْمِنْغَم الفِرْيِةَ التي رَوَّجَها أعداء الإسلام ضده، وما زالوا يًرَوِّجُونها حتى الآن، وهي فِرْيَةُ انتشاره بالسيف، وأن الجهاد شُرِعَ باعتباره غاية في ذاته، وليس باعتباره وسيلة للدفاع وردّ العدوان، يقول: “لم يُشْرَع الجهادُ لهداية الناس بالسيف، ففي القرآن ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(2)، والقرآن يأمر المسلمين بالاعتدال، وبألا يبدأوا بالاعتداء … وكان محمد يوصي جنودَه بأن يرحموا الضعفاءَ والشيوخَ والنساءَ والأولادَ، وكان ينهى عن هَدْمِ البيوتِ وإهلاك الحَرْثِ وقَطْعِ مثمر الشجر، وكان يأمر بألا يَسُلَّ مسلمٌ حُسامَه إلا عند أقصى الضرورة … وهو الذي كان يرى أن النفس الواحدة خيرٌ من كل الغنائم”(3)، وأشاد بما في الإسلام من التسامح الذي دفع الناس إلى الدخول في الإسلام رغبة فيه، فقال: “وما أكثر ما في القرآن والحديث من الأمر بالتسامح، ولم يَروِ التاريخُ أن العربَ قتلوا شعبًا بأجمعه، وما دخول الناس أفواجًا في الإسلام إلا عن رغبة فيه. وهنا نذكر أن عمر بن الخطاب لما دخل القدس فاتحًا أمر بألا يُمَسَّ النصارى بسوءٍ، وبأن تُتْرَكَ لهم كنائسُهم، وشَمَلَ البطركَ بكل رعاية، ورفض الصلاةَ في الكنيسة خوفًا من أن يتخذ المسلمون ذلك ذريعةً لتحويلها إلى مسجد. وهنا نقول ما أعظم الفرق بين دخول المسلمين القدس فاتحين، ودخول الصليبيين الذين ضربوا رقاب المسلمين؛ فسار فرسانهم في نهر من الدماء، التي كانت من الغزارة ما بلغت معه رُكَبَهُم ولُجُمَ خيولِهم، وعقدوا النية على قتل المسلمين الذين تفلَّتوا من المذبحة الأولى!”(4).
وذكر دِرْمِنْغَم أن ما أصاب المسلمين من تخلفٍ يرجع في الأساس إلى بُعْدِهم عن الإسلام ومبادئه فقال: “وكان الانحطاطُ السياسيُّ والاجتماعيُّ موازيًا لنسيان مبادئ الإسلام الصحيح مع أنه لم ينشأ عنها”(5).
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نقول: إن إميل دِرْمِنْغَم يُعَدُّ من المستشرقين المتفرّدين والمتميزين والمنصفين الذين قدموا مساهمات قيّمة ومنصفة لشخص النبي وسيرته ورسالته يحتاج الغرب الآن أن يتأملها ويتدبرها، ولاسِيَّما أنها قد صدرت عن أحد أبنائه، وليس عن أحد المؤمنين برسالة النبي الأكرم والرسول الأعظم ﷺ.