البدعة عند ابن تيمية


بقلم الشيخ : أبو بكر الجندى

عرَّف الإمام ابن تيمية البدعة في مجموع الفتاوى بأنها: “ما لم يشرعه الله ورسوله وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب”، فيرى الإمام أن البدعة هي شيء مخترع في الدِّين لم يأت عليه دليل من الكتاب أو السنة.

ولكن بالنظر إلى السلوك العملي للإمام نرى أنه قد خالف بنفسه هذا التعريف، وقام بأداء قربات ليس لها دليل من الكتاب أو السنة، ومن ذلك:
1ـ تكرار ذِكرٍ مخصوصٍ بأعداد معينة في أوقات محددة، قال ابن القيم في مدارج السالكين عن شيخه وسمعته يقول: “من واظب على (يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث) أربعين مرة، كل يوم، بين سنة الفجر وصلاة الفجر؛ حصلت له حياة القلب، ولم يمت قلبه!”.

2ـ التكبير عند الحريق قال الإمام ابن تيمية في كتاب قاعدة حسنة في الباقيات الصالحات: “والحريق يطفأ بالتكبير، فإن مردة الإنس والجن يستكبرون”.

3ـ قراءة آيات بعينها على أماكن محددة من الجسد، قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: ‌‌كتابٌ للرُّعاف (وهو نزول الدم من الأنف): “كان شيخ الإسلام ابن تيميَّة قدَّس الله روحه يكتب على جبهته: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ ‌أَقْلِعِي ‌وَغِيضَ ‌الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ}[هود: 44]. وسمعته يقول: كتبتها لغير واحدٍ، فبرأ”.

4ـ ومن ذات الباب قال ابن القيم: وكان ‌شيخ ‌الإسلام ‌ابن ‌تيميّة رحمه الله ‌إذا ‌اشتدّت ‌عليه ‌الأمور قرأ آياتِ السّكينة، قال ابن القيم مؤيداً لشيخه: “وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه، فرأيت لها تأثيراً عظيماً في سكونه وطمأنينته”.
5ـ وفي كتابه الكلم الطيب قال: قال يونس بن عبيد رحمه الله: ما من رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83]، إلا وقفت بإذن الله تعالى، قال ابن تيمية وقد فعلنا ذلك فكان كذلك بإذن الله تعالى.ومن خلال هذه التجارب التيمية يظهر أن ابن تيمية بين أمرين لا ثالث لهما إما أنه مبتدع في الدِّين، أو أن تعريفه للبدعة غير صحيح، والصواب أنه ليس بمبتدع، وأنه إمام مجتهد، ويمكن الاستدلال لتجاربه وتخريجها على وجه صحيح مقبول، عملا بقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ}[محمد: 33]، ولكن تعريفه للبدعة هو الغير دقيق؛ لأن سنده في ذاك التعريف هو حديث “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”، والحديث بلفظه لا حجة له فيه؛ لأن الحديث لم يقل (من أحدث في أمرنا فهو رد)، فيكون كل جديد محدث مردودا حتى ولو كان خيرًا، وإنما المردود فقط هو الذي ليس من الدِّين، أي أن شرط الابتداع هو مخالفة الكتاب والسنة، لا مجرد الترك النبوي، وهو ما فهمه الإمام الغزالي من الحديث، حيث يقول في إحياء علوم الدِّين: “فليس كل ما أبدع منهياً، بل ‌المنهي: ‌بدعة ‌تضاد ‌سنة ثابتة، وترفع أمراً من الشرع”، وقال أيضاً: “إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها”، كالطلاق البدعي الذي كاد أن يمحوا الطلاق السني.

فليس كل بدعة محرمة بإطلاق، بل البدعة تعتريها الأحكام التكليفية الخمسة، كما قرر ذلك الإمام العز بن عبد السلام حيث قال في قواعد الأحكام: “البدعة فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهى منقسمة إلى: بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة…”، وهو ما أيده الحافظ في فتح الباري.

وكم اخترع المسلمون أدعية، وألفوا أذكاراً وأوراداً، وأبدعوا صلوات محمدية، وجربوا تجارباً، وأنشدوا شعراً، وقرأوا من الرقى الكثير والكثير! ومنهم الإمام ابن تيمية نفسه، ولا يقال أنه مبتدع أو أنها بدع مذمومة، إلا إذا خالفت الكتاب والسنة الصحيحة.