وعى النبوة

بقلم الأستاذ الدكتور : مجدي إبراهيم
أستاذ الفلسفة الإسلامية والتصوف جامعة أسوان

(والذي نفسٌ محمد بيده : ما بعد الموت من مُستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار ).

فى شهر مولده نذكر أن سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم، وهب الحريّة للإنسانيّة، وحطّمَ الأصنام والكهانة، واستقل بكرامة الإنسان عن سطوات الأغيار، وعن عبادة الأصنام، وعن أغلال قيودها المُستبدّة، ومضى يُبصِّره بكشف حقيقته الإنسانية كشفاً من جديد فى ضوء البذرة الإلهية فيه، وفتح ضميره مستقلاً عن التّعلُّق بغير الله والعمل من أجله، واستغلال الطاقة الإنسانية والعمر البشرى فى تحصيل ما بقىَ من كرامة الفرد فى رحاب الله.

فمن خطبه، صلوات الله وسلامه عليه، وهو مُعلّم البشرية .. أيها الناس (إنَّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإنَّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم؛ فإنّ العبد بين مخافتين : أجل قد مضى لا يدرى ما الله فاعل فيه، وأجل باق لا يدرى ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه، ومن دنياه ﻵخرته، ومن الشبيبة قبل الكبر، ومن الحياة قبل الممات، فو الذى نفسُ محمد بيده : ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلّا الجنّة أو النار).

لابدّ من ملاحظة سريان الوعي العالي فى أدب الخطاب النبوي، وهو خطاب يحمل وضوح الحقيقة وجلاءها من جهة، كما يحمل فى الوقت نفسه خفاءَها وسريتها.

ولا بدّ مرة ثانية من ملاحظة أنه من الأخطاء التى تتردد دائماً خطأ اعتبار أن كل خفاء وسريّة هما خارج نطاق الوعي، وبالتالى فلا يمكن للوعي أن يمثله أو يُعبر عنه أو يعكسه فى الحقيقة واقعاً مشهوداً للأبصار.

هذه فكرة غير صحيحة بالمرة؛ لأنها وإنْ انطبقت على الوعي العادي المحدود، فلا يمكن بحال أن تنطبق على الوعي العالي غير المتناهى وغير المحدود، وهو هنا وعي النبوة ويليه وعي الولاية.

الوعى العالى شأنه أرفع وأسمى فى ملكة الإدراك : دائماً ما يُمْسِك بالنهايات ولا يتناهى هو فى ذاته؛ ولكونه لا يتوقف عند المُنتهي، فهو لا يتناهى بالتفكير المشروط؛ لأنه غير محدود بحدوده على الإطلاق؛ إذْ إنه وعي يدرك ما لا يدركه الوعي العادى المحدود.

وعي النبوة يحيطك بعالم الحقيقة فى كلمات قِصَار نافذة، فهو يهدف مباشرة إلى تقدير العمر البشري واغتنام اللحظة الفاعلة فيه، المؤسسة عليه. ولا يمكن تقدير العمر البشري بغير الانتباه إلى هذه المعالم المحددة ووضعها فى الاعتبار : وأن هذا العمر محدود، له نهاية لا بدّ من الانتهاء إليها.

ومخافة العبد حين يضع فى الاعتبار تقدير العمر الإنساني لا تتعدّى إمّا الأجل الذى مضى منه ليس يدرى ما الله فاعل فيه، وإمّا الأجل الباقي الذى لا يدرى ما الله قاض فيه.

وعلى العبد إذن بين هاتين المخافتين أن يقدّر عمره، وأن يحسب للحظاته ألف حساب وحساب، وأن يعرف عدد أنفاسه فيه؛ ليغتنمها فيما بقى، ويتدارك منها بالتوبة والاستغفار ما مضى.

الوعى النبوي يختصر الزمن كله فى عبارة موجزة مُعجزة، دالة، ثاقبة الرؤية، ومحددة الاتجاه كما البوصلة المرشدة إلى صحيح الطريق. تأمل قوله عليه السلام : (والذي نفسٌ محمد بيده : ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنّة أو النار ).

وعن هذا الوعى العالي يأتي أدب الخطاب النبوي كما تجىء الرسالة : استقرار قيمة واستشراف دلالة.