د. إسلام عوض يكتب: الحياة الطيبة

بقلم الدكتور : إسلام عوض مدير تحرير بجريدة الأهرام المصرية 

كلمة واحدة تحمل في طياتها كل الأمل والطموح، هي “الحياة الطيبة”؛ إنها غاية يسعى إليها كل إنسان، ومطلب يرنو إليه كل عاقل، وتتوق لها كل النفوس، ولكن ما هي الحياة الطيبة؟ وهل هي مجرد رفاهية مادية أم سعادة روحية؟

يرى البعض أن الحياة الطيبة تكمن في الأضواء البراقة والمناصب الخداعة، أو في تكديس الأموال والقصور الفخمةويظن آخرون أنها في الانغماس في الشهوات والمتع الزائلة، ولكن كل هذه المظاهر ليست سوى سراب، لا تجلب سكينة النفس، ولا صفاء الروح، ولا سعادة القلب. 

إن الحياة المعاصرة أكبر شاهد على ذلك، فبالرغم من التطور التكنولوجي المذهل غير المسبوق، والرفاهية المادية التي لم يشهد لها التاريخ مثيلًا، يعيش الإنسان في ضنك وقلق وكآبة، وكلما تقدمت البشرية تكنولوجيًا خطوة، تراجعت إنسانيًا خطوات؛ وأكبر شاهد على ذلك،كمثال فقط وليس موضوع المقال، هو ما يحدث الآن لغزة وأهلها؛ من حصار ودمار وقتل وهدم وتشريد وتجويع، جهارًا نهارًا عيانًا بيانًا، ولم يتحرك لنجدتهم، تحرك جدي، كائن واحد من الثمانية مليار إنسان، فكل ما يحدث على أرض الواقع هو محاولات،مشكورة، لإنقاذهم ولم تنجح بعد.

 

نعود إلى موضوعنا، نعم، أبدعت الحضارة الحديثة في توفير أسباب الراحة الجسدية، لكنها فشلت فشلاً ذريعًا في تحقيق السعادة الداخلية؛ فلقد ارتفعت نسبة الجريمة، وازدادت المصحات النفسية وحالات الانتحار، وتفاقم القلق والتوتر؛ لأن الإنسان لم يدرك أن سعادته ليست جسدية، بل روحية.

منابع الحياة الطيبة: الإيمان والعمل الصالح :
الحياة الطيبة ليست وهمًا، بل هي وعد من الله لمن آمن وعمل صالحًا، كما ورد في قوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

الإيمان: هو الأساس المتين الذي تُبنى عليه الحياة الطيبة، وعندما يؤمن الإنسان بالله، ويستسلم لأمره، ويرضى بقضائه، يجد لحياته معنى وقيمة. 

الإيمان يملأ القلب بالرضا والطمأنينة والأمل، ويمنحه القوة لمواجهة تقلبات الحياة، والمؤمن يعلم أن أمره كله خير، فإذا أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، كما جاء في الحديث الصحيح، وفي كلتا الحالتين هو رابح، فالمحروم حقًا ليس من فقد المال أو الجاه، بل من فقد الإيمان.

العمل الصالح: إنه أسلوب حياة شامل يهدف إلى إسعاد الناس وتحقيق صلاح أحوالهم؛ فالسعادة الحقيقية ليست في اقتناء الأشياء، بل في العطاء والإحسان؛ قال رسول الله “صلى الله عليه وسلم”: “ليسَ الغنى عن كثرةِ العَرَضِ، ولَكنَّ الغِنى غنى النَّفسِ)؛ فعندما تسعد الآخرين، فإنك تزرع السعادة في قلبك قد يجد الإنسان لذة عابرة في تجميع الثروات، لكنه لن يجد السعادة الحقيقية إلا في مساعدة محتاج، أو التخفيف عن مكروب، أو إدخال الفرحة على قلب يتيم.

مفاهيم الحياة الطيبة وجزاء الطيبين :
لقد فسر العلماء الحياة الطيبة بأكثر من معنى، وكلها تصب في مصب واحد: السكينة الداخلية والرضا عن الله؛ فالحياة الطيبة هي:

القناعة: أن يرضى الإنسان بما قسمه الله له، فلا يتعب قلبه في السعي وراء ما ليس له.

الرضا: أن يطمئن قلبه لأقدار الله، ويعلم أن كل ما يصيبه هو خير له.

حلاوة الطاعة: أن يجد لذة وسرورًا في التقرب إلى الله وذكره.

ولا تعني الحياة الطيبة أنها خالية من الابتلاءات، بل هي القدرة على استقبالها بنفس راضية مطمئنة، والمؤمن يعلم أن الدنيا دار ابتلاء، وأن الأنبياء أشد الناس بلاء، ولكنه يبقى أسعدهم؛ لأن جنته في صدره من عاش طيبًا، توفاه الله طيبًا، وأدخله دار الطيبين؛ فعند وفاته، تبشره الملائكة بالروح والريحان، وفي القبر يأتيه عمله الصالح في أجمل صورة، وعند دخول الجنة تقول لهم الملائكة: {طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}.

وكما قال الشاعر والفيلسوف اللبناني إيليا أبوماضي: “كن جميلًا ترى الوجود جميلًا”، فكن طيبًا، تطيب لك الحياة، وعلق قلبك بالله وحده، وكن ذا نية طيبة، وقول طيب، وعمل طيب، وتذكر دومًا أن الفرق بين الطيبة والضعف كبير، فالطيبة صفاء في القلب وقوة في السلوك، بينما الضعف تساهل وتنازل نابع من الخوف، أو التردد، مما يجعل صاحبه عرضة للاستغلال من الآخرين.

واسع يا أخي إلى أن تصل إلى درجة العبودية لله وحده، فهي شرف ليس بعده شرف، فعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد أعطى الله تعالى درجة العبودية لرسله وأنبيائه؛ فقال الله تعالى عن رسوله الكريم “محمد صلى الله عليه وسلم”: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)، وقال: (فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ)، وقال: (أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)، وقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا).

وقد ورد لفظ العبوية أيضًا في دعاء “سيد الاستغفار”، (اللهم أنت ربي وأنا عبدك)؛ وهذا الدعاء ورد في حديث صحيح وثابت عن النبي “صلى الله عليه وسلم”، في صحيح البخاري.

فما طابت الدنيا إلا بذكره، ولا الآخرة إلا بعفوه، ولا الجنة إلا برؤيته، فإن رضيت بالله ربًا رضي بك عبدًا؛ وأعلى درجة يبلغها بشر عند الله تعالى هي درجة العبودية الكاملة لله وحده، وهي شرف وعز وكرامة في الدنيا والآخرة يبحث عنها كل مؤمن، فإذا رضيك الله له عبدًا صرت من أسعد الخلق في الدنيا والآخرة، والعبودية لله هي قمة الكمال البشري، وهي الصفة التي تجمع كل الفضائل والمقامات الرفيعة، ومن حقّقها، حقّق أعلى الدرجات عند الله في الدنيا والآخرة.