خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ) للشيخ أحمد عزت حسن

خُطْبَةُ الجُمُعَةِ القَادِمَةِ( سَمَاحَةُ الإِسْلَامِ)
للشيخ :  أحمد عزت حسن

خطبة الجمعة ٥ رببع الأول ١٤٤٧هــ الموافق ٢٩ من أغسطس ٢٠٢٤م

الموضوع
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا رسول الله ﷺ، “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا . يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا”، وبعد
إن الدين الإسلامي قائم على اليسر ورفع الحرج ابتداء من العقيدة وانتهاء بأصغر أمور الأحكام والعبادات بشكل يتوافق مع الفطرة الإنسانية، وهذا في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} الحج٧٨
فحين تجد امرءًا سهلاً ميسرًا، يتنازل عن حظ نفسه أو جزء من حقه، ليحلّ مشكلة هو طرف فيها، أو ليطوي صفحة طال الحديث فيها، أو ليتألف قلبـًا يدعوه، أو ليستطيب نفس أخيه، وهو قبل ذلك لا يتعدى على حق أخيه، ولا يلحف في المطالبة بحقوقه، فذلك هو الرجل السمح، وتلك هي السماحة.

وقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن من أهم ما تميزت به رسالة الإسلام هو السماحة واليسر كما روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسول الله ﷺ، قال: «رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى». [البخاري: (٢٠٧٦).]
في هذا الهدي النبوي يبين لنا رسول الله ﷺ ويحضنا على السماحة في المعاملة، واستعمال معالي الأخلاق، وترك المشاحنة، والحض على ترك التضييق على الناس في المطالبة، وأخذ العفو منهم”.

وأكثر ما تكون الخصومات في المعاملات المالية، والمناظرات الخلافية، والملاسنات الكلامية، وقلّ أن يسلم فيها من لم يتحلّ بكرم الخلق ، وجود النفس ، وسماحة الطبع .
وفي الحديث الشريف تظهر سماحة الإسلام؛ فالرسول الكريم -ﷺ- يدعو ربه مبتهلًا إليه، أن يرحم المؤمن السمح في كل معاملاته فيحسن المعاملة في البيع والشراء، كما يحسن المعاملة في قضاء الدين، الذي عليه بالحسنى، واقتضاء الدين الذي يكون له عند الآخرين، فيمهله حتى يستطيع رده، أو يتنازل عنه؛ فيتصدق عليه لإعساره، بل هذا خير له، قال تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٢٨٠]
وروى الترمذي من طريق زيد بن عطاء بن السائب عن ابن المنكدر في هذا الحديث بلفظ: (غفر الله لرجلٍ كان قبلكم كان سهلاً إذا باع)
وفي الحديث الشريف: «من أنظر معسرًا أو وضع عنه، أظله الله في ظله».[مسلم: ٣٠٠٦.]
و«من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة، فلينفس عن معسر، أو يضع عنه».[مسلم: ١٥٦٣]
فقوله ﷺ: (سمحًا): سهلاً، وهي صفة مشبهة تدل على الثبوت؛ فلذلك كرَّر أحوال البيع والشراء والتقاضي، والسَّمح: الجواد، يقال: سمح بكذا إذا جاد، والمراد هنا المساهلة.
(وإذا اقتضى) أي: طلب قضاء حقه بسهولة، وعدم إلحاف، في رواية حكاها ابن التين: (وإذا قضى) أي: أعطى الذي عليه بسهولة بغير مطلٍ.
ويعلق ابن حجر على رواية البخاري بقوله: “السهولة والسماحة متقاربان في المعنى .. والمراد بالسماحة ترك المضجرة ونحوها، وندخل في صلب الموضوع فنقول وبالله التوفيق:

أولًا: من صور السماحة
■ السماحة في البيع
إن من صور السماحة في البيع أن يحدد البائع ثمن بضاعته؛ حتى لا يتعرض لكثرة المساومة والحلف لترويج سلعته، وقد ذم القرآن الكريم الذين يروجون سلعتهم بالأيمان الغموس، ويشترونها بالحلف الكاذب، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ..} [آل عمران: ٧٧]
وقد امتدح النبي -ﷺ- التاجر الصادق فقال: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين، والصديقين، والشهداء» [سنن الترمذي ت شاكر: (١٢٠٩)]

● وتقتضي السماحة من البائع عدم الغش أو البخس في الكيل والميزان، مما يتنافى مع المروءة فذلك عين الكذب، قال النبي ﷺ: «من غشنا فليس منا».[مسلم]

■ أما السماحة في الشراء فلعل أبرز مثال عليها هو “بيع المضطر”، فإذا كان أحدهم “مضطرًا” لبيع ما يملك لضائقة مرّت به، فإن السوق الذي تحكمه قوى العرض والطلب قد يُغري المشتري بشرائها بأقل من ثمنها، وإن كان عادلاً فسيشتريها بسعر السوق المتعارف عليه أما إذا كان سمحًا فسيشتريها بأكثر من سعرها قدر المستطاع ليساعد المضطر! ولا يستغل حاجته.

■ وأما السماحة في قضاء الدين؛ فتقتضي رده في أجله على الوجه الذي يحبه الدائن ويرضاه، ولا يحوج الدائن إلى مطالبته والإلحاح عليه مع قدرته على سداد ما في ذمته لئلا يكون مماطلا فالمطل ظلم يخل بالمروءة والسماحة، وقد قال ﷺ: «مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع».[مسلم: ١٥٦٤]

■ التنازل عن الحق:
إن صاحب السماحة لا تطيب نفسه بأن يحصّل حقـًا لم تطب به نفسه الطرف الآخر، فيؤثر التنازل أو السماحة، -إن كان الحق له-، وهذا ما كان من عثمان -رضي الله عنها- حين اشترى من رجل أرضـًا، فتأخر صاحب الأرض في القدوم عليه لقبض الثمن، وتبين له أن سبب تأخره أنه بعد أن تم العقد شعر البائع أنه مغبون، وكان الناس يلومونه كيف تبيعها بهذا الثمن؟ قال عثمان: “فاختر بين أرضك ومالك” ثم ذكر له الحديث: (أدخل الله عز وجل الجنة رجلاً كان سهلاً مشتريـًا وبائعـًا، وقاضيـًا ومقتضيًا) (رواه أحمد) .

■ إنظار المعسر:
إن إنظار المعسر، أو التجاوز عن القرض أو عن جزء منه، صورة عظمية من صور الكرم وسماحة النفس، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال رسول الله ﷺ: (كان تاجر يداين الناس، فإذا رأى معسرًا قال لفتيانه: تجاوزوا عنه؛ لعل الله أن يتجاوز عنا، فتجاوز الله عنه). متفق عليه.

* بل إن توفيق الدنيا والآخرة مرهون بتيسيرك على أخيك المعسر: (من يسّر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة) (رواه مسلم).

خرَّج الشيخان البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: “اشترى رجلٌ من رجل عقاراً، فوجد الذي اشترى العقار في عقاره جَرَّة فيها ذهب، فقال الذي اشترى العقار للبائع: خذ ذهبك، أنا اشتريت منك الأرض، ولم أشتر الذهب؛ وقال الذي باع له الأرض: إنما بعتُك الأرض وما فيها؛ فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد؟ قال أحدُهما: نعم؛ وقال الآخر: لي جارية – أي بنت؛ قال: أنكحا الغلام الجارية، وأنفقا على أنفسهما منه؛ فانصرفا”.
يا لله العجب ممن نعجب عباد الله من ورع وتقوى المشتري أم من سماحة وكرم البائع عباد الله؟

■ رد القرض بأحسن منه:
وقد كان رسول الله ﷺ يردّ القرض بخير منه وبالزيادة فيه ، ويقول: (أعطه ، فإن خيار الناس أحسنهم قضاء)(رواه ابن ماجه). وما ترك صاحب القرض يمضي إلا وهو راضٍ.

■ السماحة مع الشريك:
كما شهد لرسول الله ﷺ شريكه في التجارة قبل البعثة: (السائب بن عبد الله) بقوله له: “كنتَ شريكي في الجاهلية، فكنت خير شريك، كنت لا تداريني ولا تماريني” (رواه ابن ماجة).
أي كنت لا تدافعني في أمر ولا تجادلني، بل كنت شريكـًا موافقـًا، ولم ينسها له، وكانت سببـًا من أسباب محبته له، وتكون سببـًا من أسباب النجاة من النار لمن تخلَّق بها (حرم على النار كل هيِّن ليِّن سهل، قريب من الناس) (رواه أحمد) .

■ رفع الحرج عن الناس:
صاحب السماحة لا يحرص على إيقاع الناس في الحرج، ولا يشغله التفكير بما له عن التفكير بما عليه من سماحة مع إخوانه وتقدير لظروفهم، وفي الحديث الصحيح أن الصحابي أبا اليسر -رضي الله عنه- كان له على رجل قرض، فلما ذهب لاستيفاء حقه اختبأ الغريم في داره؛ لئلا يلقى أبا اليسر، وهو لا يملك السداد، فلما علم أبو اليسر أن صاحبه يتخفى منه حياء لعدم تمكنه من أداء ما عليه، أتى بصحيفة القرض فمحاها، وقال: “إن وجدت قضاء فاقض، وإلا فأنت في حلّ” (رواه مسلم). وبسماحته تلك أخرج أخاه من الحرج الشديد .

■ السماحة مع من أساء:
وأبرز مواقف السماحة ما يكون مع من أساء إليك، كالذي جرى مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين أقسم ألاَّ ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لتورطه في حديث الإفك، فأمره الله تعالى أن يعفو ويصفح، فكفر عن يمينه، وعاد ينفق عليه وفي ذلك يقول ﷺ: (ارحموا تُرحموا، واغفروا يغفر لكم) (صحيح الجامع). وقد وصف الله عباده المؤمنين بأنهم: ( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)(الشورى: ٣٧) .

■ السماحة بين تهمة العجز أو الفجور:
وقد يوسوس الشيطان للمسلم: إنك لو تسامحت وصفك الناس بالعجز، وظنوا فيك الضعف، ولأَنَ تُؤْثِرَ أن يقال فيك ما يقال خير لك من الوقوع في الفجور، بحيث يخشى الناس شرّك، وقد ورد في الحديث: (يأتي عليكم زمان يُخيَّر فيه الرجل بين العجز والفجور، فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز على الفجور) (رواه أحمد) .
ولابد من الإشارة إلى أن السماحة هنا مع أصحاب الفلتات من المسلمين، أما الذين يظلمون الناس ويصرون على ذلك فيُعامَلون بخلق. (الانتصار) .

■ وأخيرًا نصل إلى السماحة في علاقة الخلق بالخالق؛ إذ لا يقتصر خلق السماحة على دائرة التعاملات البشرية الدنيوية بل يمتد إلى عقد الصفقات والتعاملات مع الله -عز وجل- في الحياة الدنيا والآخرة. والله -جلّ في علاه- يعلمنا ذلك حين يحدثنا عن تجارتنا معه سبحانه فيقول: [ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله] و [إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة] و [من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له] .
فرأينا هنا عملية البيع والشراء والاقتضاء في المتاجرة مع الله عز وجل. ورغم أن النفس والمال من عند الله إلا أنه – سبحانه وتعالى- يجازي بائعهم له بالجنة.. فيرد على سماحة البيع بسماحة الشراء، كما يرد القرض بأضعافه.

ثانيًا: من هدي النبي ﷺ في السماحة
وكان من هدي النبي ﷺ أمر التجار بالبرِّ، والصدق، والصدقة فعن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: (الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا) [متفق عليه].

عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِلَى الْمُصَلَّى، فَرَأَى النَّاسَ يَتَبَايَعُونَ فَقَالَ: ( يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ)، فَاسْتَجَابُوا لِرَسُولِ الله ﷺ وَرَفَعُوا أَعْنَاقَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ إِلَيْهِ فَقَالَ: (إِنَّ التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّاراً، إِلاَّ مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ) [الترمذي وابن ماجه].

ومن هديه -ﷺ- أمر التجار الصدقة:
وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ قال: كان ﷺ يقول: (يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إِنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ، فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ) [الترمذي وأبو داود].

ومن كرمه وسماحته -ﷺ- أن يهب السلعة وثمنها لصاحبها بعد أن يشتريه منه:
وقد ضرب النبي -ﷺ- لنا أروع الأمثلة في السماحة وفي الكرم والجود إذ أنه جاد بالثمن والسلعة بعدما اشتراها. فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله أَنَّهُ كَانَ يَسِيرُ عَلَى جَمَلٍ لَهُ قَدْ أَعْيَا فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّبَهُ قَالَ: فَلَحِقَنِى النَّبِيُّ ﷺ فَدَعَا لِي وَضَرَبَهُ فَسَارَ سَيْرا لَمْ يَسِرْ مِثْلَهُ قَالَ: (بِعْنِيهِ بِوُقِيَّةٍ) قُلْتُ: لا، ثُمَّ قَالَ: (بِعْنِيهِ)، فَبِعْتُهُ بِوُقِيَّةٍ وَاسْتَثْنَيْتُ عَلَيْهِ حُمْلاَنَهُ إِلَى أَهْلِي فَلَمَّا بَلَغْتُ أَتَيْتُهُ بِالْجَمَلِ فَنَقَدَنِي ثَمَنَهُ ثُمَّ رَجَعْتُ فَأَرْسَلَ فِي أَثَرِى فَقَالَ: ( أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لآخُذَ جَمَلَكَ خُذْ جَمَلَكَ وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ) [متفق عليه].

ثالثًا: آثار السماحة على الفرد والمجتمع
إن المسلم العاقل هو من يزن نتيجة أفعاله قبل القيام بها، واتباع خلق مثل السماحة في البيع والشراء يمكن أن تقاس نتائجه في الآتي:

– كفاءة الأداء في العمل: جزء من حرص التاجر على سماحة الخلق هو تعيينه لأفراد ذوي نفس المبادئ والأخلاق وبذلك يضمن أمانتهم وكفاءتهم في العمل.

– إرضاء العميل أو المستهلك: في ظل ما يشهده الاقتصاد العالمي من تحرر وانفتاح فقد أصبح المستهلك هو سيد الموقف؛ أمامه البضائع المختلفة وله الخيار أن يشتري ممن يشاء، وبالطبع سيفضل من يحسن معاملته.

– تحقيق أهداف العمل التجاري: من كسب.. وكثرة العملاء.. وسمعة طيبة توعد بالمزيد.

فالسماحة باعتبارها خلقًا وقيمة تجعل من السوق -جوهر الاقتصاد- الذي تكثر فيه الشياطين، ومن أسوأ الأماكن عند الله كما تروي الأحاديث- تجعل هذه السوق تحكمه القيم والأخلاق ولا تحكمه قوانين العرض والطلب فقط والتي تنتفي فيها الأخلاق.
هذا فيما يخص الحسابات التجارية في الحياة الدنيا، أما الجزاء الأوفى فيكفينا رواية حذيفة رضي الله عنه قال: (أتى الله بعبد من عباده آتاه الله مالًا، فقال له: ماذا عملت في الدنيا؟ – قال ولا يكتمون الله حديثًا – قال: يا رب آتيتني مالك، فكنت أبايع النَّاس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أتيسَّر على الموسر، وأنظر المعسر. فقال الله: أنا أحق بذا منك، تجاوزوا عن عبدي) [متفق عليه].
وهكذا السماحة.. تراحم في الدنيا بين العباد، ورحمة في الآخرة من رب العباد.

رابعًا: صور تتنافى مع السماحة:
١- كثرة الخصومات:
وإن مما يتنافى مع السماحة الانزلاق إلى اللدد والخصومة، إذ كما يحب الله السماحة فإن (أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) (رواه البخاري).
قال الحافظ في الفتح: “الألدّ : الكذاب، وكأنه أراد أن من يكثر المخاصمة، يقع في الكذب كثيرًا”.
وحين يفتقد المرء السماحة تجده ينحدر في أخلاقه، إلى أن ينجرف إلى التصايح والجدل لأمر يعلم بطلانه، أو وقوفـًا على طرف لا يدري مدى أحقيته ! (… ومن خاصم في باطل -وهو يعلمه- لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه …) (رواه أبي داود) . وقد قيل في المثل: ما استرسل كريم قط .

٢- كثرة الجدل:
إن خلق السماحة يقتضي من صاحبه المبادرة إلى التنازل عند الوقوع في أي موقف جدلي، ولنتذكر دائمـًا أن العلم بميقات ليلة القدر خير كبير حرمت منه الأمة؛ بسبب انعدام روح السماحة بين رجلين من الأمة: (خرجت لأخبركم بليلة القدر ، فتلاحى فلان وفلان فرُفعت) (رواه البخاري).
وكم تُحرم الأمة من البركات والنعم والنصر حين تدب الخصومات، بل إن صفة أساسية من أخلاقيات المنافق أنه: (وإذا خاصم فجر) (رواه البخاري) .
ولا يليق بالرجل السمح أن يتعنت ويجادل ويشد ويصيح، ناهيك عن أن يفجر في الخصومة (والجور: الميل عن الحق والاحتيال في رده) (فتح الباري) .

وإنه مما يتنافى مع روح السماحة أن يقع الإخوة في جدالات تافهة لأمور سياسية، أو قضايا فكرية [الجدل البيزنطي]، أو توقعات غيبية [مثل توقعات الفوز في مبارة كرة]، ثم تجدهم ينفضّون متباغضين، وما كانت البداية إلا روح الجدل و(ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل) (رواه ابن ماجه) .
ولحث المسلمين على السماحة في الحوار، والتنازل عند الاختلاف، وعدم الوقوع في مغبة الجدل، تعهد رسول الله -ﷺ- ببيت في الجنة لمن تنازل: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقـًا) (رواه أبي داود).
ولا يمكن أن يكون سماحة وتنازلاً إلاَّ حين يكوم محقـًا، وإنه لعسير، وإن أجره لكبير.

٣- كثرة اللغو:
ومن نتائج انعدام روح السماحة أن تغدر أمتنا تتبارى بألسنتها، فتنقلب إلى أمة كلام بدل أن تكون أمة عمل، وتضيع الأوقات في الشد والجذب والأخذ والرد، وكل يناصر رأيه، إن مما حرم رسول الله ﷺ على أمته (منعـًا وهات)، ومما كره لهم: (قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال) (رواه البخاري) .

أيها الإخوة المؤمنين: إن الدنيا عرَضٌ حاضر، يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة لوعد صادقٌ يحكم فيها ملك عادل، فطوبى لعبدٍ عمِل لآخرته وحبله ممدود على غاربه، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فتوبوا إلى الله واستغفروه وادعوه وأنتم موقونون بالإجابة.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. قاد سفينة العالم الحائرة في خضم المحيط، ومعترك الأمواج حتى وصل بها إلى شاطئ السلامة، ومرفأ الأمان، فاللهم صل وسلم وزد بارك عليك سيدي يا رسول الله وآلك وصحبك قادة الحق، وسادة الخلق إلى يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وبعد

خامسًا: مواقف تقتضي السماحة:
١- السماحة في الجهاد:
ولا يكمل أجر المجاهد إلا بالسهولة والسماحة (الغزو غزوان: فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام ، وأنفق الكيمة ، وياسر الشريك، واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله) (رواه أبي داود ، وهو حسن).
قال الباجي في (ياسر الشريك): يريد موافقته في رأيه مما يكون طاعة، ومتابعته عليه وقلة مشاحّته فيما يشاركه فيه من نفقة أو عمل.
فلنوفر أوقاتنا، ولنحفظ أخوتنا بتعميم روح السماحة فيما بيننا، وبالنزول عند رغبة إخواننا إيثارًا لما هو أغلى.

٢- السماحة مع الزوج:
تظهر آثار (السماحة) في جميع مظاهر حياة صاحبها ، فانظر إلى رسول الله -ﷺ- مع زوجه (عائشة) -رضي الله عنها- حين قصدت الحج والعمرة، فأصابها الحيض، فحزنت؛ لعدم تمكنها من أداء العمرة، وبكت لذلك وقالت: “يرجع الناس بحجة وعمرة، وأرجع بحجة؟!!” يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه: “وكان رسول الله -ﷺ- رجلاً سهلاً ، حتى إذا هَوِيَتْ الشيء تابعها عليه، فأرسلها مع عبد الرحمن بن أبي بكر فأهلّت بعمرة من التنعيم … ” . قال النووي : “سهلاً: أي سهل الخلق ، كريم الشمائل ، لطيفـًا ميسرًا في الخلق” (رواه مسلم) .
فما أعظم سماحته -ﷺ- مع أهله في مثل هذا الموطن المزدحم، وفي حال السفر.

– مع المدعوين:
وتأمل سماحة رسول الله -ﷺ- في دعوته: فحين وجد ريح ثوم في مسجده، نهي الصحابة عن أن يرد أحد مسجده قبل ذهاب ريح الثوم منه، وكان المقصود بالنهي (المغيرة بن شعبة) يقول -رضي الله عنه-: “أتيته فقلت: يا رسول الله إن لي عذرًا، ناولني يدك – قال فوجدته والله سهلاً – فناولني يده، فأدخلتها في كمي إلى صدري، فوجده معصوبـًا، فقال: إن لك عذرًا” فعذره حين وجد أنه أكل الثوم لمرض، وكم نحتاج إلى أن نتأسى بهذه السماحة مع المدعوين لنكون مبشرين غير منفرين ميسّرين غير معسّرين.

– العلاقة بين الصبر والسماحة:
وإن مما عرّف به رسول الله -ﷺ- الإيمان قوله: (الإيمان: الصبر والسماحة) (صحيح الجامع) .

حيث عرّف الإيمان بحسن المعاملة مع الخالق والمعاملة مع المخلوق، وكأنما يريد بالصبر علاقة العبد مع ربه ؛ بالصبر على طاعته، والصبر عن معصيته والصبر على أقداره، وكأنما أراد بالسماحة علاقة العبد بأخيه؛ بحيث تغلب عليها السهولة والمياسرة والسماحة، وقابلية التوسيع والتناول لرضى الله ، وفيما يرضي الله وربما كان من حكمة الربط بينما أن السماحة تقتضي قدرًا كبيرًا من الصبر والتحمل: (وَلَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) (الشورى/٤٣) .

فكن سمحـًا أخي المسلم الحبيب إذا عاملت أو دعوت، سمحـًا إذا حاورت أو رافقت، سمحـًا إذا ظُلمت أو جُهل عليك، فرسالتنا حنيفية سمحة … . والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل.