النابتة يقولون مالايفهمون

بقلم الشيخ محمد رجب أبو تليح عضو إدارة الفتوى بوزارة الأوقاف 

 

أولا : رفع الصوت بالذكر بعد الصلاة :

بعد صلاة الجمعة قام أحدهم وأخذ يلوح بيده مستنكرا ممتعضا، وهو يشير إلى المؤذن بعدما قلت له: اختم الصلاة. وأخذ يتكلم وأنا لا أسمعه غير أني قرأت في وجهه وإشاراته الاستنكار، وانتظرته ليبدي برأيه الثمين، ثم ناديته: ماذا تقول؟

فقال بلهجة واثقة: أنا أول مرة في حياتي أشوف هذا الوضع، من يومنا بنصلي في المساجد وبنختم الصلاة سرا، اللي بيحصل دا بدعة

فقلت له: خدعوك فقالوا لك ذلك، بل الإسرار به خلاف فعل النبي ﷺ ، وها هي الأدلة لكن هات ورقة واكتب، فوجدته يستمر في كبره قائلا: قل وأنا احفظ.

فقلت له: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كُنْتُ أعرِفُ انقضاءَ صلاةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالتَّكبيرِ. رواه البخاري في كتاب الصلاة باب الذكر بعد المكتوبة، ورواه مسلم وغيرهما.

وهذا يعني أن النبي ﷺ كان يبدأ في الذكر بعد الصلاة المكتوبة – أي صلاة الفرض – وهذا يعني أن النبي ﷺ كان يرفع صوته بالتكبير أكثر ما يرفع صوته بالتسليم خارجا من الصلاة، وسبب ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما كان طفلا وقد بلغ من العمر يوم انتقل النبي ﷺ إلى الرفيق الأعلى ثلاثة عشر سنة، فكان يؤخر إلى صفوف الصبيان خلف صفوف الرجال، كما كانت العادة في اصطفاف الصفوف خلف رسول الله ﷺ ، الرجال أولا، ثم الصبيان، ثم النساء، وإن كان في مخيلتك أن عدد صفوف الصحابة خلف رسول الله ﷺ عشرة أو مائة فأنت واهم فعدد أهل المدينة كان كثيرا، فضلا عن الصحابة الذين كانوا يتوافدون إليه ﷺ لزيارته، والاستماع إليه، والصلاة خلف حضرته، فقد كان العدد يتجاوز الألوف، خاصة وأنت لا تدرك أن رسول الله ﷺ انتقل إلى الرفيق الأعلى وترك مائة وعشرين ألف صحابي، وفي عد آخر: مائة وثلاثين ألفا، فكان ابن عباس رضي الله عنهما لبعد المسافة قد لا يسمع تسليم حضرته خروجا من الصلاة ، لكنه كان يسمع صوته الشريف بالتكبير، مما يدل على أنه كان يرفع صوته بالتكبير أكثر مما يرفعه بالتسليم.

وفي الرواية الثانية عند البخاري عن أَبَي مَعْبَدٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ: «أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ، بِالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ﷺ» وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «كُنْتُ أَعْلَمُ إِذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إِذَا سَمِعْتُهُ». ومما يستنبط من هذه الرواية أن ابن عباس رضي الله عنهما عاب على من أسر بالذكر بعد الصلاة من التابعين، فأخبرهم أن رسول الله ﷺ كان عمله طيلة حياته رفع صوته بالذكر بعد صلاة الفرض حتى انتقل إلى جوار ربه، وكأنه يقرر – بل وهو كذلك – أن من أسر بالذكر بعد صلاة الفريضة خالف سنة النبي ﷺ.

فاستشهد بأن ذلك يشوشر على الناس ومن يصلي منهم :

فقلت: هذه ليست بحجة معتبرة في ميزان الشريعة، خاصة وأن فعل رسول الله ﷺ يقررها سنة عنه وزيادة على ذلك مثلا، هل يجوز شرعا أو عقلا أن نمنع الخير عن الناس بتعليمهم الذكر بعد الصلاة لهذه العلة، والذكر فيه ما فيه من الخيرات، والحسنات، وجاء فيه أحاديث متواترة في عظيم فضله؛ بل إنه مما تجبر به الصلاة، بل وهو واجب بعدها لأمر الله تعالى بذلك في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا﴾ (النساء: 103)!.

وماذا نفعل مع من دخل المسجد والإمام يخطب خطبة الجمعة؟ ومن لازم مذهبه؛ بل من السنة لمن التزمها أن يصلي ركعتين تحية المسجد؟ هل نطالب الخطيب أن يقف عن الكلام ليصلي؟!

وماذا نفعل للمتأخرين عن الصلوات في أيام التشريق في أيام عيد الأضحى، ومما هو معروف من السنة أن يجهر المصلون بالتكبير عقب الصلوات المفروضة، هل نقول لهم: لا تجهروا بالتكبير حتى ينتهي هؤلاء من صلاتهم؟ وهذا لا، ولم، ولن يحدث، لما جرت عليه السنة في ذلك، والناس يتمون صلاتهم ولم يتضجر أحد!.

فقال: لكن النبي ﷺ لم يأمر بذلك – يريد لم يقل اختموا الصلاة بصوت مرتفع – .

فقلت: سبحان ربي، لكنه فعل ذلك طيلة حياته الشريفة وفعله كقوله، وأمره.

قال: لكن العلماء بيأكدوا إنها في السر

قلت: هذا رأي للإمام الشافعي رحمه الله قال: أستحب الإسرار بالذكر بعد الصلاة إلا …

ولكن لا يكملون قوله ويخفونه، وبقية قوله رحمه الله: إلا إن احتيج إلى التعليم، فيجهر به. بل ومن فتاوى من ترجعون إليهم، كابن باز، وابن العثيمين، والألباني، جميعهم قالوا: إن الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة سنة عن النبي ﷺ، فارجع إلى أقوالهم، والأمر يسير، اكتب في متصفح (جوجل): حكم الجهر بالذكر بعد الصلاة المكتوبة عند: ابن باز، وابن عثيمين، والألباني، وسترى أقوالهم، لأنكم لا تعتمدون غيرها، وتأكد من ذلك بنفسك وانصرف ولم يقتنع بشئ، وأغلب الظن أنه لم يدخل المسجد إلا بعد أن خط الشيب برأسه، وكبر سنه، لأنه يقول: أول مرة نشوف هذا يحصل في المساجد.

وسبحان ربي ولى معقبا، ولم يقتنع!.

ثانيا :سؤال الله بجاه النبيﷺ :

دعوت أثناء الدعاء بقولي: اللهم إنا نسألك بحبيك وبجاهه لديك، وبكرامته عليك.

فإذا بصاحب لحية يأتي، وخاطبني بغلظة بدت في لهجته، ولحن قوله
قائلا: يا شيخ السؤال بجاه النبي ﷺ بدعة محرمة ولا يجوز ذلك، نسأل الله فقط

 

فقلت له: وهل سمعتني أدعو النبي ﷺ أو أسأله شيئا؟ إنما سألت الله ودعوته بجاهه لديه.

فقال: حرام.

فقلت: كيف تفهم معنى كلمة الجاه؟

قال: الحق.

قلت: بل هو الشرف، والقدر، والمنزلة عنده تعالى، والحق له عند الله أيضا لمنزلته لديه.وبماذا تفهم قوله تعالى: ( وجيها في الدنيا والآخرة ) [ آل عمران: ٤٥] في شأن الروح عيسى بن مريم عليهما السلام ؟

وفي قوله تعالى في حق الكليم موسى عليه السلام: ( ياأيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) [ الأحزاب : 69 ] وقد قال أهل التفسير للقرآن: أن الجاه هو: المنزلة، والمكانة، والقدر العظيم؛ ومنهم فخر الدين والدنيا الإمام الرازي رحمه الله، قال:

المسألة الأولى : معنى الوجيه : ذو الجاه والشرف والقدر ، يقال : وجه الرجل يوجه وجاهة فهو وجيه، إذا صارت له منزلة رفيعة عند الناس والسلطان، وقال بعض أهل اللغة : الوجيه : هو الكريم ؛ لأن أشرف أعضاء الإنسان وجهه فجعل الوجه استعارة عن الكرم والكمال .

واعلم أن الله تعالى وصف موسى – صلى الله عليه وسلم – بأنه كان وجيها قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها ) [ الأحزاب: 69 ] ثم للمفسرين أقوال :

الأول : قال الحسن : كان وجيها في الدنيا بسبب النبوة ، وفي الآخرة بسبب علو المنزلة عند الله تعالى .

والثاني : أنه وجيه عند الله تعالى ، وأما عيسى – عليه السلام – ، فهو وجيه في الدنيا بسبب أنه يستجاب دعاؤه ، ويحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص بسبب دعائه ، ووجيه في الآخرة بسبب أنه يجعله شفيع أمته المحقين ويقبل شفاعتهم فيهم كما يقبل شفاعة أكابر الأنبياء عليهم السلام .

وفي حديث عثمان بن حنيف رضي الله عنه: أنَّ رجلًا ضريرًا أتى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليْهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ فقال : يا نبيَّ اللهِ ادعُ اللهَ أنْ يعافيَني . فقال : إنْ شئْتَ أخرْتُ ذلك فهوَ أفضلُ لآخرتِكَ ، وإنْ شئْتَ دعوْتُ لكَ قال : لا بلْ ادعُ اللهَ لي . فأمرَهُ أنْ يتوضأَ وأنْ يصليَ ركعتينِ وأنْ يدعوَ بهذا الدعاءِ : اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عليْهِ وعلى آلهِ وسلَّمَ نبيِّ الرحمةِ ، يا محمدُ إنِّي أتوجَّهُ بكَ إلى ربِّي في حاجَتي هذه فتَقضى , وتُشفعُني فيه وتشفعُهُ فيَّ . قال : فكان يقولُ هذا مرارًا , ثم قال بعدُ – أحسبُ أنَّ فيها : أنْ تُشفعَني فيه – قال : ففعلَ الرجلُ فبرأَ.

فهذا واضح في مبناه ومعناه أنه يجوز سؤال الله وعاؤه بجاه النبي ﷺ، وأمر منه ﷺ لهذا الرجل بذلك .

ودعاؤنا الله عزّ وجل بجاه النبي ﷺ، ليقيننا أنه أشرف عباده وأكرمهم لديه، وأشرف النبيين والمرسلين قاطبة، ومن شك في ذلك فليراجع إيمانه، ومن يحرمه فلا يسعفه دليل معتبر يقوم حجة على سقم فكره، وسفاهة عقله.

ولكنه لم يقتنع، وقال: أنا عند رأيي ولا أقتنع بما تقول.

قلت: أنت وشأنك، سقنا إليك الأدلة من سنة الجناب الأعظم ﷺ، ومن لم يقنع بها فلا أقنعه الله ولا رضي عنه، ولا أرضاه، هذا ما تعلمناه على هدى من أهل العلم، والحجج والأدلة حكم بيننا وبينك في الدنيا والآخرة بين يدي الله عز وجل.

وفي النهاية نداء إلى إخواننا الأئمة والدعاة، كل في موقعه: صححوا مفاهيم الناس و عقيدتهم التي لوثها أهل المخالفة والهوى، فضلوا وأضلوا كثيرا من الناس، فهموهم هذه المسائل فهذا واجبنا ودورنا، واعلموا أن سوء الأدب مع رسول الله ﷺ من أعظم أسباب حلول البلاء الظاهر والباطن على الأمة، فوالله ما كانت عزة، ولا كان مجدا ونصرا لسلفنا من ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم، ومن بعدهم من أجيال العزة والهدى إلا بمحبته وتوقيره وتعظيمه ﷺ، ومعرفة حقوقه، والتزام الأدب مع حضرته ظاهرا وباطنا، قلبا وقالبا.

والسلام خير الختام، ونسأل الله تعالى الهداية لعامة الأمة، وكشف الغمة، وتلوث العقول بجاه سيد الأمة ﷺ عن الأمة، آمين.