صلاح الدين الأيوبي وأسرى حطين… بين السياسة والحرب


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي

إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

عندما وقعت معركة حطين عام 1187م، سجّل التاريخ واحدة من أعظم الانتصارات الإسلامية على الحملات الصليبية. فقد استطاع صلاح الدين الأيوبي أن يحقق نصراً ساحقاً على جيوش الصليبيين بقيادة ملك القدس جاي دي لوزينيان، وأمير الكرك رينالد دي شاتيون، وغيرهم من قادة أوروبا. وكان من نتائج هذا الانتصار أسر آلاف الجنود الصليبيين، في مشهدٍ لم يشهده المشرق الإسلامي منذ قرون.

لكن السؤال الذي ظل يتردد في المصادر والدراسات: هل أخطأ صلاح الدين عندما تبادل الأسرى مع الصليبيين، وهو ما سمح لعدد كبير منهم بالعودة مرة أخرى لمقاتلته في السنوات التالية؟

وكان مفهوم الحرب في العصور الوسطى يختلف عن الحروب الحديثة. إذ لم تكن المعارك مجرد صراع دموي حتى النهاية، بل كان تبادل الأسرى والفداء جزءاً أصيلاً من التقاليد الحربية والدبلوماسية. المسلمون والصليبيون على السواء كانوا يتعاملون مع الأسرى باعتبارهم “رأسمال سياسي وعسكري”، يمكن استثماره في مفاوضات لاحقة.

صلاح الدين الأيوبي، برغم صلابته العسكرية، كان رجل دولة بارعاً، يدرك أن الأسرى ورقة ضغط ثمينة. ولهذا اختار في بعض المراحل إطلاق سراح بعض الأسرى مقابل فدية مالية أو مقابل أسرى مسلمين في سجون الصليبيين. وقد كان ذلك شائعاً في تلك الفترة، حتى لا تتعطل المفاوضات أو تستنزف الجيوش في الحصار الطويل.

وتذكر بعض المصادر أن عدداً من الذين أُطلق سراحهم أو تم مبادلتهم عادوا بالفعل للقتال في صفوف الصليبيين لاحقاً، خاصة في الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ريتشارد قلب الأسد (1189-1192م). ويُقال إن بعضهم شارك في معارك عكا التي استنزفت جيش صلاح الدين بعد حطين.

لكن من الناحية العلمية، يجب التفريق بين:

الأسرى البسطاء من الجنود الذين تم بيع بعضهم في الأسواق أو إطلاقهم مقابل فدية. هؤلاء كان من الصعب أن يعودوا إلى القتال سريعاً، لأنهم عادة كانوا يُفكّون عبر أقاربهم أو أديرتهم بمبالغ طائلة.

القادة والفرسان البارزون، وهؤلاء كان إطلاقهم يتم بحذر شديد، باستثناء بعض الحالات التي كانت تفرضها المفاوضات.

والمؤرخون مثل ابن الأثير وبهاء الدين بن شداد (كاتب سيرة صلاح الدين) أشاروا إلى أن السلطان كان صارماً في التعامل مع الأسرى الخطرين، وأبرز مثال على ذلك إعدامه لريْنالد دي شاتيون بيده بعد حطين، لجرائمه بحق قوافل المسلمين والحجيج. بينما عامل ملك القدس معاملة لينة وأبقاه أسيراً.

ويذكر ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ أن صلاح الدين بعد حطين قبض على أكثر من عشرين ألفاً من الجنود، وأنه قتل بعضهم في ساحة القتال كعقوبة رمزية، بينما باع آخرين في أسواق دمشق وحلب.

أما بهاء الدين بن شداد في النوادر السلطانية فيوضح أن صلاح الدين لم يكن يفرّط بسهولة في الأسرى الخطرين، بل كان يطلق من يضمن أنه لن يعود للقتال، أو من يحقق إطلاقه منفعة استراتيجية للمسلمين.

بينما يروي عماد الدين الأصفهاني أن بعض المفرج عنهم بالفعل ظهروا لاحقاً في معركة عكا، وأن ذلك سبب جدلاً بين بعض القادة الذين رأوا أن التساهل مع الأسرى قد يُطيل أمد الحرب.

وفي المقابل، تذكر المصادر اللاتينية مثل وليم الصوري أن الأسرى الذين عادوا من سجون صلاح الدين كانوا يرفعون من معنويات الصليبيين في أوروبا، ويصورون الأيوبي تارةً كخصم عنيد، وتارةً كخصم “فارس شريف” يعامل الأسرى بالعدل. وهذا كان له أثر دعائي وسياسي بالغ في الغرب.

وإذا نظرنا للأمر بمعايير عسكرية بحتة، يمكن القول إن إطلاق الأسرى قد أعاد بالفعل بعض القوة البشرية للمعسكر الصليبي لاحقاً، وأسهم في إطالة أمد الصراع. لكن من زاوية سياسية ودبلوماسية، كان ذلك جزءاً من لعبة التوازنات التي يجيدها صلاح الدين، فالحرب لم تكن فقط معركة ميدان، بل أيضاً مفاوضات، وضغوط، ورسائل موجهة إلى أوروبا والبابوية.

ثم إن صلاح الدين كان يوازن بين القيم الإسلامية في معاملة الأسرى، وبين مقتضيات المصلحة. ففي الشريعة الإسلامية كان الأسرى إما يُفدى بهم، أو يُطلقون، أو يُسترقون، حسب ما يراه الإمام أصلح للأمة. وصلاح الدين كان يرى أن الفداء والتبادل أفضل في بعض الحالات، خصوصاً لاسترجاع أسرى المسلمين الذين كانوا يعانون الأمرّين في سجون الصليبيين.

إذن، لا يمكن اعتبار تبادل الأسرى خطأً مطلقاً أو صواباً مطلقاً، بل كان خياراً سياسياً وعسكرياً فرضته الظروف. صحيح أن بعض الأسرى عادوا لمقاتلة المسلمين لاحقاً، لكن صلاح الدين حقق من خلال هذه السياسة مكاسب إنسانية وسياسية، وأعاد مئات الأسرى المسلمين إلى ديارهم. كما أنه لم يتساهل مع القادة الخطرين، وضرب مثلاً في الحزم والعدل، مثلما فعل مع رينالد دي شاتيون.

لقد كان صلاح الدين قائداً يجمع بين الحزم العسكري والسياسة المرنة، وبين القيم الدينية ومتطلبات الميدان. وربما لو لم يمارس سياسة تبادل الأسرى، لواجه ضغطاً داخلياً وخارجياً أكبر، ولحُرم كثير من الأسرى المسلمين من العودة إلى أوطانهم. وهنا يظل السؤال مفتوحاً: هل أخطأ؟ أم أنه تصرف وفق ما يقتضيه الموقف؟
الإجابة تختلف باختلاف زاوية النظر، لكن المؤكد أن حطين كانت نقطة تحوّل في تاريخ المنطقة، وأن سياسة صلاح الدين – بحزمها ولينها – كانت جزءاً من عبقريته الفريدة.