الشيخ محمود الحوت، مأساة الصمت النبيل في زمن الشيطنة


بقلم الكاتب / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي

في ذاكرة الأمم، تبقى بعض الشخصيات شامخة كالأطواد، لا تهتز أمام العواصف، ولا تتلوّن بتقلبات المصالح. رجال يختارون أن يكونوا أوفياء لمبادئهم حتى ولو انفضّ عنهم الركب، ويؤثرون الثبات على المساومة، والصمت الحكيم على الانفعال الأهوج. ومن هؤلاء، الشيخ محمود الحوت، رحمه الله، الذي عاش بين فكي كماشة من الاستبداد والتطرف، في واحدة من أحلك صفحات تاريخ سوريا الحديث، وبقي مثالًا للعالم الذي لم يبع نفسه للسلطان، ولم يساوم على عقيدته، ولم يتنازل عن إنسانيته.

عالم لم يحنِ رأسه للسلطان

منذ بداياته، عرف الشيخ الحوت طريقه جيدًا: لا ولاء إلا للحق، ولا انحياز إلا لقيم العدل، ولا كلمة إلا في ميزان الشرع والأخلاق. كان يعلم أن الاقتراب من قصور السلطة في عهد القهر السياسي ليس سوى انزلاق نحو هاوية التنازلات، حيث يتحوّل العالم إلى مبرّر لجرائم الحاكم. لذلك رفض أن يكون جزءًا من مشاهد الولاء المصطنعة، تلك التي كانت تملأ الشوارع بالهتافات والصور، بينما تملأ السجون بالمعارضين والمظلومين.

وفي زمن كان فيه الجهر بكلمة الحق يجرّ صاحبه إلى زنزانات لا تفتح إلا على القبر، ظلّ ثابتًا، لا يهادن في مبدأ، ولا يضعف أمام ترهيب.

ثورة… وصمت حكيم

حين اندلعت الثورة السورية، كان قلب الشيخ الحوت مع حلم التحرر من الظلم، لكنه كان واعيًا أن الساحة السورية لم تعد ساحة مواجهة بين حرية واستبداد فقط، بل أصبحت ساحة صراع معقّد، تتداخل فيه مشاريع الدول، وتختلط فيه الشعارات بالمؤامرات. كان يدرك أن الانجرار وراء خطابات العنف قد يحوّل الثورة إلى محرقة، وأن الكلمة غير المحسوبة قد تفتح أبواب جهنم على من حوله.

اختار الصمت، ليس ضعفًا أو انحيازًا، بل حفاظًا على مدرسة الكلتاوية، ذلك الصرح العلمي الذي كان بمثابة منارة للعلم الشرعي، ومأوى لمئات الطلاب. كان يعلم أن النظام يتحين الفرصة لضرب المدرسة، وأن أي تصريح منسوب إليه قد يستخدم ذريعة لإغلاقها وتشريد طلابها.

لقد فهم أن البطولة أحيانًا تكون في حماية الأرواح والمؤسسات العلمية، وأن قول الحق ليس دائمًا في رفع الصوت، بل قد يكون في كفّ اللسان حين تكون الكلمة وقودًا للدم.

الوهابية… وأرشيف طويل من الشيطنة

استهداف الشيخ محمود الحوت لم يكن حدثًا استثنائيًا أو وليد اللحظة، بل كان حلقة جديدة في سلسلة قديمة من استهداف الوهابية لعلماء أهل السنة الأشاعرة والماتريدية، وخاصة أعلام التصوف.

منذ نشأة الدعوة الوهابية في القرن الثامن عشر على يد محمد بن عبد الوهاب، تبنت نهجًا إقصائيًا يقوم على تكفير المخالفين، وتجريم الممارسات التعبدية التي درجت عليها الأمة قرونًا، مثل الاحتفال بالمولد النبوي، وزيارة القبور، والتوسل بالصالحين. هذا النهج جعلها في حالة عداء دائم مع المذاهب السنية الكبرى، وعلى رأسها المذهب الأشعري الذي كان المذهب الرسمي لعلماء الشام ومصر والمغرب، ومع المدارس الصوفية التي كانت رافدًا روحيًا وحضاريًا للأمة.

على مدار أكثر من قرنين، مارست الوهابية حربًا منهجية على هؤلاء العلماء، مستخدمة سلاح التشويه والاتهام بـ”البدعة” و”الشرك” و”موالاة السلطان”. كانت الفكرة بسيطة وخطيرة: إذا أردت أن تُسقط مكانة عالم في قلوب الناس، فاتهمه بأنه خادم للسلطة، أو بأنه مبتدع ضال، وستجد الجهلة يصدقونك بلا دليل.

الشيخ الحوت واجه نفس السلاح الذي وُجِّه من قبل إلى الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، رحمه الله، الذي قُتل في المسجد الأموي الكبير بدمشق عام 2013، وسط حملة تكفير وشيطنة غير مسبوقة من الوهابيين وبعض المتطرفين. الفارق أن الحوت آثر الصمت حتى الرمق الأخير، لكن ذلك لم يشفع له عند خصومه، بل استغلوا حياده لاتهامه بأنه “شيخ سلطان”.

بين مطرقة الاستبداد وسندان التطرف

لقد وجد الشيخ الحوت نفسه محاصرًا بين نظام دموي يرى في العلماء المستقلين تهديدًا، وجماعات تكفيرية تعتبر الحياد خيانة، والصمت تواطؤًا، والحكمة ضعفًا. في كلا الجانبين، لا مكان لمن أراد أن يظل وفيًا لقيمه دون أن يصبح أداة في يد أحد.

إنسان قبل أن يكون عالمًا

لم يكن الشيخ الحوت خطيبًا سياسيًا، ولا زعيمًا جماهيريًا، بل كان مربّيًا ومصلحًا، يضع مصلحة الناس فوق أي اعتبارات أخرى. في زمنٍ صار فيه الدم أرخص من الكلمة، اختار أن يكون على الضفة التي تمنع القتل، وتحمي المجتمع من الانزلاق في هاوية الطائفية.

إرث الصمت المقاوم

سيبقى اسم الشيخ محمود الحوت محفورًا في ذاكرة من عرفوه، لا لأنه كان الأكثر صخبًا، بل لأنه كان الأصدق ثباتًا. أدرك أن الثورة الحقيقية هي التي تُصلح النفوس قبل أن تُسقط الأنظمة، وأن صوت الحكمة قد يكون خافتًا، لكنه أبلغ أثرًا من أصوات المدافع.

إن مأساة الشيخ الحوت ليست فقط في الاتهامات التي لاحقته، بل في أن عصرنا أصبح يحاكم العالم الذي يختار إنقاذ الأرواح بدلًا من دفعها إلى المحرقة.

الوهابية واستهداف العلماء – خط زمني

1744م – تحالف الدرعية:
محمد بن عبد الوهاب يتحالف مع محمد بن سعود لتأسيس الدولة السعودية الأولى، ويبدأ مشروعًا دينيًا عسكريًا يهاجم القرى والمدن بحجة “تطهير العقيدة”، ويستهدف العلماء الصوفيين والمذاهب التقليدية.

1802م – مذبحة كربلاء:
هجوم وهابي على كربلاء يؤدي إلى قتل الآلاف، بمن فيهم طلاب العلم، وتدمير العتبات المقدسة ونهب مكتباتها.

1811-1818م – حملات محمد علي باشا:
الحملات العسكرية المصرية تنهي الدولة السعودية الأولى، بعد شكاوى متكررة من علماء الحجاز والشام من فتاوى التكفير والتحريض على قتل المخالفين.

1924-1925م – ضم الحجاز:
عند دخول الوهابيين إلى مكة والمدينة، تم التضييق على العلماء المالكية والشافعية والأشاعرة، وإلغاء بعض المدارس الشرعية التقليدية.

منتصف القرن العشرين:
تصاعد نفوذ الوهابية عبر النفط السعودي، وتأسيس الجامعات والمعاهد التي تصدر خطابًا معاديًا للتصوف، مع طباعة كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب بملايين النسخ لتوزيعها مجانًا في العالم الإسلامي.

1979م – الثورة الإيرانية والطفرة النفطية:
استُغلت الطفرة لتمويل حركات “الصحوة” التي هاجمت علماء الأزهر والزيتونة والشام، ووصفتهم بـ”المبتدعة” و”شيوخ السلطان”.

2011م – الربيع العربي:
في سياق الثورات، صعد خطاب وهابي مسلح، شنّ حملات شرسة ضد العلماء الصوفيين، وشيطن كل من لم ينخرط في مشروعه المسلح، بما في ذلك الشيخ البوطي والشيخ الحوت.