كَيْفَ يُعِيدُ التَّصَوُّفُ الإِسْلَامِيُّ التَّوَازُنَ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ فِي ظِلِّ الظُّرُوفِ الرَّاهِنَةِ

بقلم الأستاذ: وليد عبد الله

الحمدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ لِلرُّوحِ مَسَالِكًا إِلَى السَّكِينَةِ، وَفَتَحَ لِلْقُلُوبِ أَبْوَابَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النُّورِ الَّذِي اهْتَدَتْ بِهِ الأَرْوَاحُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

يُعَدُّ التَّصَوُّفُ الإِسْلَامِيُّ أَحَدَ أَعْمِقِ المَسَارَاتِ الرُّوحِيَّةِ الَّتِي تَعَامَلَتْ مَعَ الإِنْسَانِ بَعْدَّةِ أَبْعَادٍ: النَّفْسِيِّ، وَالأَخْلَاقِيِّ، وَالاجْتِمَاعِيِّ. وَفِي زَمَنٍ تَسُودُ فِيهِ الأَزَمَاتُ الاقْتِصَادِيَّةُ وَالتَّحَوُّلَاتُ القِيمِيَّةُ، يُمْكِنُ لِلتَّصَوُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ إِسْهَامًا فَعَّالًا فِي إِعَادَةِ التَّوَازُنِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ، مِنْ خِلَالِ تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَإِحْيَاءِ قِيَمِ التَّكَافُلِ وَالإِحْسَانِ.

إنَّ التَّصَوُّفَ الإِسْلَامِيَّ لَيْسَ مَجَرَّدَ طَرِيقَةٍ رُوحِيَّةٍ لِلتَّزْهِيدِ أَوِ الانْعِزَالِ عَنِ الحَيَاةِ، بَلْ هُوَ مَدْرَسَةٌ مُتَكَامِلَةٌ لِبِنَاءِ الإِنْسَانِ فِي دَاخِلِهِ، وَتَهْذِيبِ سُلُوكِهِ فِي مُجْتَمَعِهِ، وَإِعَادَتِهِ إِلَى مَرَاكِزِ التَّوَازُنِ النَّفْسِيِّ وَالأَخْلَاقِيِّ وَالاجْتِمَاعِيِّ. وَفِي ظِلِّ مَا نُوَاجِهُهُ اليَوْمَ مِنْ ضُغُوطٍ اقْتِصَادِيَّةٍ، وَاضْطِرَابَاتٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ، وَتَحَوُّلَاتٍ قِيمِيَّةٍ، يَبْرُزُ التَّصَوُّفُ كَمَصْدَرِ إِنْقَاذٍ وَمِنْهَاجِ إِصْلَاحٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يُعِيدَ بِنَاءَ الجُسُورِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ.

إِنَّ التَّصَوُّفَ الإِسْلَامِيَّ لَيْسَ مَجَرَّدَ طَرِيقَةٍ لِلْعِبَادَةِ البَاطِنِيَّةِ، بَلْ هُوَ مَنْهَجٌ شَامِلٌ لِتَهْذِيبِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا، وَإِصْلَاحِ العَلاقَةِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ. وَفِي زَمَنٍ يَكْثُرُ فِيهِ القَلَقُ وَتَتَفَكَّكُ فِيهِ العَلَاقَاتُ الاِجْتِمَاعِيَّةُ، يَبْرُزُ التَّصَوُّفُ كَرِسَالَةٍ إِلَهِيَّةٍ تُعِيدُ التَّوَازُنَ وَتَرُدُّ الإِنْسَانَ إِلَى مَرَاكِزِ السَّكِينَةِ وَالإِيمَانِ ، و إلَيْكَ الإيضَاح :

أَوَّلًا : التَّصَوُّفُ وَإِعَادَةُ التَّوَازُنِ الدَّاخِلِيِّ لِلإِنْسَانِ

إِنَّ أَكْبَرَ أَزْمَةٍ يُعَانِيهَا الإِنْسَانُ الحَدِيثُ هِيَ فَقْدُ السَّكِينَةِ النَّفْسِيَّةِ. فَبَيْنَ صَخَبِ الحَيَاةِ، وَتَسَارُعِ الوَقْتِ، وَتَعَقُّدِ العَلَاقَاتِ الاجْتِمَاعِيَّةِ، يَفْقِدُ الكَثِيرُونَ اتِّصَالَهُمْ بِذَوَاتِهِم، وَيَتَعَرَّضُونَ لِلاِضْطِرَابِ وَالقَلَقِ.

وَهُنَا يَظْهَرُ دَوْرُ التَّصَوُّفِ الَّذِي يَدْعُو إِلَى:

1. المُجَاهَدَةِ النَّفْسِيَّةِ: حَيْثُ يُرَبِّي الإِنْسَانَ عَلَى مُرَاقَبَةِ قَلْبِهِ وَتَصْفِيَتِهِ مِنَ الغِلِّ وَالحِقْدِ وَالْحَسَدِ.

2. الذِّكْرِ وَالخُلْوَةِ الرُّوحِيَّةِ: وَهِيَ مَجَالِسُ تُعِيدُ لِلرُّوحِ نَقَاءَهَا، فَتَسْتَعِيدُ النَّفْسُ قُدْرَتَهَا عَلَى التَّوَازُنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ.

3. تَزْكِيَةِ الأَخْلَاقِ: فَالتَّصَوُّفُ يُعَلِّمُ الإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ رَحِيمًا، حَلِيمًا، صَادِقًا، وَ هَذِهِ الأَخْلَاقُ تُشَكِّلُ دِرْعًا نَفْسِيًّا يُحَافِظُ عَلَى صِحَّتِهِ الرُّوحِيَّةِ.

أَصْلُ كُلِّ إِصْلَاحٍ اجْتِمَاعِيٍّ يَبْدَأُ مِنْ إِصْلَاحِ النَّفْسِ.

قَالَ الإِمَامُ الجُنَيْدُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

“طَرِيقُنَا هَذَا مُقَيَّدٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَنْ لَمْ يَحْفَظِ الكِتَابَ وَيَكْتَفِ بِالسُّنَّةِ لَمْ يُذَقْ مِنْهُ شَيْئًا.”

وَيُعَلِّمُنَا التَّصَوُّفُ أَنَّ السَّكِينَةَ الحَقِيقِيَّةَ لا تَأْتِي إِلَّا بِذِكْرِ اللهِ وَتَزْكِيَةِ القَلْبِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).

وَبِذَلِكَ يُعِيدُ التَّصَوُّفُ لِلإِنْسَانِ قُدْرَتَهُ عَلَى التَّوَازُنِ وَالثَّبَاتِ فِي مُوَاجَهَةِ الأَزَمَاتِ.

وَبِهَذَا يُصْبِحُ الإِنْسَانُ المُتَصَوِّفُ مُتَّزِنًا دَاخِلِيًّا، قَادِرًا عَلَى مُوَاجَهَةِ أَزَمَاتِ العَصْرِ بِقَلْبٍ ثَابِتٍ وَنَفْسٍ رَاضِيَةٍ.

ثَانِيًا: التَّصَوُّفُ وَتَعْزِيزُ التَّكَافُلِ الاجْتِمَاعِيِّ

إِذَا صَلَحَ الفَرْدُ صَلَحَ المُجْتَمَعُ. وَالتَّصَوُّفُ لا يَقِفُ عِنْدَ البُعْدِ النَّفْسِيِّ وَالرُّوحِيِّ فَقَطْ، بَلْ يَمْتَدُّ لِيَشْمَلَ الإِصْلَاحَ الاجْتِمَاعِيَّ. وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي:

1. إِحْيَاءِ قِيمَ العَطَاءِ وَالبِرِّ: فَالتَّصَوُّفُ يُرَبِّي أَتْبَاعَهُ عَلَى الإِيثَارِ وَخِدْمَةِ الغَيْرِ، وَهُوَ مَا يَبْنِي جُسُورَ التَّوَاصُلِ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ.

2. تَشْجِيعِ المُصَالَحَةِ وَالإِصْلَاحِ: فَالمُتَصَوِّفُ الحَقِيقِيُّ يَكُونُ وَاسِطَةَ خَيْرٍ وَسَلامٍ، يَدْعُو لِرَأْبِ الصَّدْعِ بَيْنَ النَّاسِ.

3. بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ رَحِيمٍ: فَالتَّصَوُّفُ يُعَلِّمُ أَنَّ القُرْبَ مِنَ اللهِ لا يَكْتَمِلُ إِلَّا بِالإِحْسَانِ إِلَى الخَلْقِ، وَهَذَا يُحَوِّلُ المُجْتَمَعَ إِلَى بُقْعَةٍ مُمْتَلِئَةٍ بِالتَّعَاوُنِ وَالمَحَبَّةِ.

إِنَّ المُتَصَوِّفَ الحَقِيقِيَّ لا يَنْفَصِلُ عَنِ المُجْتَمَعِ، بَلْ يَصِيرُ جُسْرًا لِلرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ.

قَالَ الإِمَامُ أَبُو الحَسَنِ الشَّاذِلِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:

“إِذَا أَصْلَحْتَ بَاطِنَكَ، أَصْلَحَ اللهُ لَكَ ظَاهِرَكَ، وَإِذَا أَصْلَحْتَ نَفْسَكَ، أَصْلَحَ اللهُ لَكَ النَّاسَ.”

وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ إِصْلَاحَ العَالَمِ يَبْدَأُ بِإِصْلَاحِ القَلْبِ، ثُمَّ تَنْسَاحُ آثَارُ ذَلِكَ فِي المُجْتَمَعِ، فَيُحْيِي قِيَمَ:

الإِيثَارِ وَالبِرِّ.

الإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ.

بِنَاءِ مُجْتَمَعٍ قَائِمٍ عَلَى الرَّحْمَةِ وَالمَحَبَّةِ.

ثَالِثًا: دَوْرُ التَّصَوُّفِ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ الرَّاهِنَةِ

فِي عَصْرٍ تَزِيدُ فِيهِ المَادِّيَّةُ وَيَقِلُّ فِيهِ البُعْدُ الرُّوحِيُّ، يَتَعَرَّضُ الإِنْسَانُ وَالمُجْتَمَعُ لِلاِضْطِرَابِ وَالتَّفَكُّكِ. وَهُنَا يُمْكِنُ لِلتَّصَوُّفِ أَنْ يُقَدِّمَ حُلُولًا عَمَلِيَّةً:

مُقَاوَمَةُ النَّزَعَاتِ النَّفْعِيَّةِ: بِإِحْيَاءِ مَعْنَى العِبَادَةِ وَالخِدْمَةِ وَالإِيثَارِ.

مُوَاجَهَةُ الاِضْطِرَابَاتِ النَّفْسِيَّةِ: مِنْ خِلَالِ التَّرْبِيَةِ الرُّوحِيَّةِ وَمَجَالِسِ الذِّكْرِ وَالصُّحْبَةِ الصَّالِحَةِ.

إِعَادَةُ الهُوِيَّةِ الأَخْلَاقِيَّةِ: بِتَرْسِيخِ القِيَمِ الإِسْلَامِيَّةِ الَّتِي تَجْعَلُ الإِنْسَانَ نَافِعًا لِنَفْسِهِ وَلِمُجْتَمَعِهِ.

قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ التَّصَوُّفَ يَدْعُو لِلْعُزْلَةِ وَالانْسِحَابِ مِنَ الحَيَاةِ، وَالحَقِيقَةُ أَنَّهُ يُعِدُّ الفَرْدَ لِمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ بِقُوَّةٍ رُوحِيَّةٍ عَالِيَةٍ. قَالَ سَيِّدِي ابْنُ عَطَاءِ اللهِ السَّكَنْدَرِيُّ رَحِمَهُ اللهُ:

“مَنْ أَشْرَقَ بَاطِنُهُ أُشْرِقَ ظَاهِرُهُ، وَمَنْ صَفَا مَعَ اللهِ صَفَتْ لَهُ كُلُّ الأَشْيَاءِ.”

فَالتَّصَوُّفُ يُعِيدُ لِلإِنْسَانِ رُوحَهُ، وَيُقَوِّي عَزِيمَتَهُ، وَيُثَبِّتُهُ فِي وَجْهِ تَحَوُّلَاتِ العَصْرِ، فَيَصِيرُ عُنْصُرَ بِنَاءٍ وَتَغْيِيرٍ.

رَابِعًا : التَّصَوُّفُ جِسْرٌ بَيْنَ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ

لَيْسَ التَّصَوُّفُ هُرُوبًا مِنَ المُجْتَمَعِ، بَلْ هُوَ رِحْلَةُ عَوْدَةٍ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُعِيدَ الإِنْسَانُ بِنَاءَ نَفْسِهِ. فَالمُتَصَوِّفُ الَّذِي يَذُوقُ حَلاوَةَ الذِّكْرِ وَالمُرَاقَبَةِ يُصْبِحُ قَادِرًا عَلَى:

خِدْمَةِ النَّاسِ بِإِخْلَاصٍ.

بَثِّ رُوحِ الأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ فِي الوَاقِعِ.

تَحْوِيلِ حَيَاتِهِ إِلَى مَشْرُوعِ إِصْلَاحٍ مُسْتَمِرٍّ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ حَوْلَهُ.

إِنَّ المُتَصَوِّفَ بَعْدَ أَنْ يَتَزَكَّى وَيَسْتَنِيرَ بِنُورِ الذِّكْرِ، يَعُودُ إِلَى مُجْتَمَعِهِ لِيَصِيرَ مِصْدَرَ رَحْمَةٍ وَأَمَلٍ. وَهَكَذَا يَتَحَوَّلُ التَّصَوُّفُ إِلَى مَشْرُوعِ إِصْلَاحٍ مُتَدَرِّجٍ يَبْدَأُ بِالقَلْبِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ لِيُصْلِحَ كُلَّ مَا حَوْلَهُ.

خَاتِمَةٌ

إِنَّ التَّصَوُّفَ الإِسْلَامِيَّ هُوَ المِيزَانُ الَّذِي يُعِيدُ الاِنْسِجَامَ بَيْنَ الرُّوحِ وَالمَادَّةِ، بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالمُجْتَمَعِ. وَفِي ظِلِّ الأَزْمَاتِ الحَاضِرَةِ، يَبْقَى هَذَا النَّهْجُ الرُّوحِيُّ العَمِيقُ مَصْدَرَ قُوَّةٍ وَإِشْرَاقٍ، يُمْكِنُ أَنْ يُحَوِّلَ الفَوْضَى إِلَى نِظَامٍ، وَالقَلَقَ إِلَى سَكِينَةٍ، وَالعُزْلَةَ إِلَى تَرَابُطٍ وَوِئَامٍ.

وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصْلِحَ العَالَمَ فَلْيَبْدَأْ بِقَلْبِهِ، فَإِذَا صَلُحَ القَلْبُ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ.

إِنَّ التَّصَوُّفَ الإِسْلَامِيَّ لَيْسَ نُسُكًا مَحْضًا، بَلْ هُوَ مِفْتَاحٌ لِلتَّوَازُنِ بَيْنَ الفَرْدِ وَالمُجْتَمَعِ. وَفِي ظِلِّ الظُّرُوفِ الرَّاهِنَةِ، حِينَ تَزِيدُ المَادِّيَّةُ وَتَقِلُّ الرُّوحَانِيَّةُ، يُمْكِنُ لِهَذَا النَّهْجِ الرُّوحِيِّ أَنْ يَكُونَ الحَلَّ الأَمْثَلَ لِإِعَادَةِ الاِنْسِجَامِ وَالوِئَامِ.

“مَنْ أَرَادَ أَنْ يُصْلِحَ العَالَمَ، فَلْيُصْلِحْ قَلْبَهُ أَوَّلًا، فَإِذَا صَلُحَ القَلْبُ صَلُحَ كُلُّ شَيْءٍ.” – مأثور صُوفِي

و الحمد لله رب العالمين

المراجع

1. القشيري، عبد الكريم. الرسالة القشيرية. دار الفكر، بيروت، 2001.

2. ابن عطاء الله السكندري. الحِكَم العطائية. دار المعرفة، بيروت، 1997.

3. ابن الصباغ. درّة الأسرار وتحفة الأبرار. دار الكتب العلمية، بيروت، 2006.

4. القرآن الكريم.

5. الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. دار المعرفة، بيروت، 2005.