بين عالم حقيقي وظلٍّ مزيف: من يحق له حمل لواء الشريعة؟


بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو

( الأزهرى البابي الحلبي )

 

لو كان الأمر إليّ، لجعلت الانتساب إلى كليات الشريعة بابًا لا يطرقه إلا من اشتدت عزيمته، وسمت همته، وطهرت نيته. فما أضرّ بالأمة إلا كثرة المتعالمين وقلة العلماء، وما جلب الفوضى العلمية إلا أن يُفتح هذا الباب لكل من هبّ ودبّ، يزاحمون أهله وهم عنها غرباء.

فيا ليتهم علموا أن العبرة بالكيف لا بالكم، وأن طالب العلم الشرعي لا يُصنع في يوم وليلة، ولا تخرجه شهادة تُمنح، ولا لقب يُعطى.

وأنا لو شئت، لجعلت لهذا الانتساب نماذج ثلاثة:

النموذج الأول: أن يكون الطالب من النجباء الذين شُغلوا بالعلم الشرعي منذ نعومة أظفارهم، يدرسون المتون، ويحفظون الأصول، ويتلقون عن العلماء أصول السير والسلوك، ويشهد لهم أهل الفضل بالرسوخ. هؤلاء هم الذين يُعَدّون للإفتاء، وللقضاء، وللخطابة، وللبحث، ولحمل أمانة الأمة في العلم والدين.

النموذج الثاني: من أراد أن يتفقه في دينه ليعينه على عمله أو وظيفته، فيأخذ من العلم ما يحفظ به عقيدته وعبادته، ولا يتجاوز ذلك إلى التصدّر والفتوى. هؤلاء مثقفون بثقافة شرعية، لا علماء ولا أئمة، ولا ينبغي أن يُسمح لهم بالتشويش على الناس، ولا بالتشبه بأهل العلم فيما ليسوا أهلاً له.

النموذج الثالث: من أراد مجرد التفقه العام، وتعلم التجويد، ونحو ذلك من الأمور النافعة، فهذا حسن، ولكن لا يُلبس ثوب العلماء، ولا يُطلق عليه لقب الشيخ، ولا يُستفتى في دين الله، ولو جمع الإجازات كما تُجمع الطوابع! فالعلم ليس ورقة تُوقّع، ولكنه روح تنبض في الصدر وعقل يفقه الحق.

لكن، ويا للأسف!
هذا النموذج الثالث قد غلب في زماننا حتى صار كالسيل الجارف، تساعده وسائل التواصل، وتعينه تلك الإجازات التي توزّع كما يُوزّع السكر والشاي! وصارت جامعات في مستوى الابتدائي تُخرّج خلال سنوات قليلة “مجازين” و”دكاترة”، يتصدرون للفتوى والخطابة، وهم – والحق أقول – أضرّ من الجاهل؛ لأن الجاهل إذا جهل أقرّ بجهله، وأما هذا فقد غره لقب، وأعماه وهم، فظن نفسه من الفقهاء، وهو لا يساوي عند العلم جناح بعوضة.

وهكذا هانت كليات الشريعة، ودخلها كل ساقط في امتحان الحياة قبل امتحان العلم، حتى رأينا من كان بالأمس طالب هندسة أو تجارة يُصبح اليوم “دكتورًا في الفقه”! أي فقه هذا؟ وأي دين؟ أهذه علوم الإسلام، أم ألقاب فارغة لا تسمن ولا تغني من جوع؟

لقد جُنّ العلم بهذا التسيّب، وصارت شهادة الدكتوراه في الشريعة تُعطى بلا تسلسل علمي، ولا مشقة طلب، حتى غدت كأنها لعبة يلهو بها الناس. وهذا – والله – خطر عظيم على الأمة، يفسد عقول العامة، ويلبس عليهم أمر دينهم، حتى صار لقب “دكتور” في نظرهم حجة قائمة، وهو في الحقيقة قناع للجهالة.

فلو كان الأمر بيدي، لجعلت أبواب هذه الكليات ضيقة، لا يمر منها إلا من جُبِل على الجد، وطُبع على حب العلم، وأخذ نفسه بمكارم الطلب. فإن الأمة في حاجة إلى عالم واحد يضيء لها الطريق، أكثر من حاجتها إلى ألف مدعٍ يضلها في الظلمات.