الجهر بالتكفير
1 أغسطس، 2025
الوهابية ومنهجهم الهدام

المقال الثالث من سلسلة رواية (قرن الشيطان)
للكاتب : محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي
العودة الناقمة:
عاد محمد بن عبد الوهاب من رحلته الطويلة في طلب العلم، وهو يحمل على كتفيه ما لا يحمله عادةٌ ولا مذهب. لم تكن عودته إلى العيينة أو الدرعية مجرد عودة فقيهٍ إلى مسقط رأسه، بل كانت عودة فكرةٍ إلى بيئتها الأولى، فكرةٍ شبّت في رأسه حريقًا، ووجد في صدره قنبلةً مؤجلةً ينتظر لحظة انفجارها.
لقد عاد بوجهٍ يعرفونه، لكن بعينين لا تشبهان من ودّعوه، عاد بتدينٍ صارم كحد السيف، ونظرةٍ تمور فيها نيران القلق والغضب. لم يعد التلميذ الصغير الذي يخشع عند أقدام شيخه، بل غدا يحمل في نفسه غيظًا مكتومًا على ما تلقّاه من معارف، وعلى ما رآه من مشاهد، وعلى ما حفظه من أقوالٍ يراها اليوم مجانبةً للحق المبين.
كان قلبه ضيّقًا لا يتسع لتعدد المذاهب، ولا يقبل أنصاف الحلول. وكان يراهم جميعًا وقد باعوا الإسلام: هذا بالشرك، وذاك بالقبور، وذاك بتعظيم الأولياء، وذاك بتحكيم العقل. لم يعد يطيق الموالد، ولا الطواف، ولا الشعراء الذين يمدحون النبي، ولا الفقهاء الذين يُفتون بالرخص، ولا العامة الذين يخلطون بين الدين والعادة. كل أولئك صاروا – في عينه – مشاريع ضلال. والضلال عنده لم يكن رأيًا آخر، بل حربًا صريحة على الله.
كان يرى الناس قد ارتدّوا عن “توحيد الألوهية”، كما سماه. بل إن التوحيد، ذاك اللفظ البسيط العذب، تحوّل على لسانه إلى سيفٍ أيديولوجيٍ ماضٍ، لا يعرف المجاز، ولا يرحم التأويل. أصبح التوحيد عنده ليس مجرد إفراد الله بالعبادة، بل امتحانًا عسيرًا، يُقصي من خلاله كل ما رآه دخيلًا: من التوسل، إلى البناء على القبور، إلى الصلاة في المقامات، وحتى التلفظ بألفاظ البركة على غير الله.
لم يكن الشاب قد جاوز الثلاثين بعد، لكن فكره سبق سنّه بأشواطٍ هائلة. وكان احتكاكه الأول بعلماء مدينته وقبيلته بداية صراعٍ طويل لم يهدأ، بل اشتد وتحوّل إلى عداوةٍ سافرة. فقد بدأ يهاجمهم علنًا في حلقات العلم، ويصرّ على “بدعية” ما بين أيديهم، ويكفّر بعضهم أو يُضلّلهم جهارًا. لم يكن يعترف بمقامات السن ولا المراتب، فـ”الحق أحق أن يُتّبع”، و”ما كان محمد بن عبد الوهاب ليجامل في دين الله”.
فزِع الناس من لسانه قبل يده، وخشي منه الفقهاء قبل العامة. كانت خطبه تحمل نبرةً غريبة على تلك البيئة: جافة، خشنة، مليئة بالتقريع، لا أثر فيها لما تعودوه من تسامح فقهاء الحنابلة وتواضع الزهاد. كان لا يرى إلا طريقًا واحدًا، ومن انحرف عنه، فقد أباح دمه، ولو كان والده.
وفي ذلك الزمان، لم يكن التكفير مألوفًا بهذه السهولة، ولم يكن الناس يتقلبون بين جنةٍ ونار بكلمة. أما محمد، فقد صار ينظر في العقائد، لا في الأفعال، ويزن القلوب لا الجوارح، ويتدخل في نوايا الناس، لا في ظواهرهم. وكان إذا رأى أحدهم يتمسّح بجدار قبر، أو يرفع يديه نحو السماء عند ضريحٍ ما، صاح به: “كافر مشرك! هذا فعل أهل الجاهلية!”. لا نصح، لا لُطف، لا إنكار بمعروف. بل صراخٌ، وغضبٌ، وتكفيرٌ جهري.
وحين شكا إليه بعضُ الفقهاء أن الناس لا يتحملون هذا الأسلوب، قالها بحدة:
“السكوت على الباطل أعظم من الباطل ذاته. واللهِ، لو بقيت وحدي، فسأهدم الشرك وحدي، كما هدم محمد بن عبد الله أصنام قريش.”
وما لبث أن نقل فكره إلى منابر المساجد، ومدارس الأطفال، ومجالس القبائل. تسلّل إلى بيوت القضاة، وشكّك في إيمانهم. وسرعان ما انتشر خبره كالنار في الهشيم، لا سيما حين راح يراسل مشايخ القبائل الصغرى، يعرض عليهم فكره مقابل الولاء. وعندما رفض بعضهم، كفّرهم، وهدّدهم علنًا: “سترون السيف قريبًا إن لم تعودوا إلى التوحيد”. لقد تحوّل الفكر إلى تهديد. وتحولت الدعوة إلى تحريضٍ خشن.
والده الشيخ عبد الوهاب، الفقيه الحنبلي المعتدل، كان من بين أوائل المعترضين. قال له ذات يوم:
“يا بني، لقد شدّدت حتى مزّقت القلوب، وضيّقت حتى فتنت العوام. فلا تكن سببًا في سفك الدماء!”
لكن الابن ما انثنى، بل تمادى، واتهم أباه بأنه من “المرجئة” الذين لا يُكفّرون من وجب تكفيره.
وبعد وفاة والده، انفجرت أفكاره كبركانٍ قديم نسيه الناس، فإذا به يحرق كل أرضٍ تطؤها قدماه. لقد تحرر من قيد الأب، وقيد الفقه التقليدي، وقيد العلماء، وانطلق… لا يتكئ على شيء إلا على فهمه الخاص للنص، ولا يعترف بمرجع إلا آيات الوعيد، وأحاديث الفتنة، وسيرة نبيٍّ حوّله إلى رمز محض للقتال، لا للرحمة.
ولم يكن الفقهاء وحدهم من انزعجوا من دعوته، بل حتى عوام الناس ضاقوا بصوت هذا الشاب، الذي كلما رأى فرحًا صبّ عليه نار الشرك، وكلما شمّ بخورًا صاح: “نار الجاهلية!”، وكلما مرّ على قبرٍ مزار، صاح بهدمه.
لقد غدت كلماته سياطًا. وجبهته صلبة لا تبتسم. وعيونه لا ترى إلا خطأً. وفكره لم يعد يحتمل المهادنة. وأصبحت نجد كلها حقلًا ينتظر شرارة… تلك الشرارة التي كان اسمه وحده يحملها.
وما كانت العودة إلا بداية النار…
نبتة الغلو في تربة القسوة – حين تجمّع الغبار حول الفكرة:
ليست الأفكار وحدها من تصنع الرجال، بل التربة التي نبتت فيها تلك الأفكار، والرياح التي عصفت بها وهي جنينٌ في رحم العقول. ومحمد بن عبد الوهاب لم يكن استثناءً، بل كان ابنًا صارخًا لبيئته، وابنًا ناقمًا في الوقت ذاته، ينهل من معينٍ قديم، ويضرب بمعولٍ جديد.
وإن أردنا الإنصاف، فإن نجد في ذلك الزمن لم تكن إلا صحراء فكرية تشتعل بالتديّن الجاف، والتعصب المذهبي، والنزعة القبلية التي لا تعرف الوسط. كانت خريطة الحنابلة فيها أشبه بشبكةٍ من المعابد الطقسية، تحتكم إلى التقليد دون تدبر، وتخشى من الجديد كما يخشى البدوي من العاصفة في الخلاء. وكان الإسلام عند أغلب أهل نجد مشوبًا بعادات جاهلية تسربت من عصور ما قبل التدوين، مزينةٍ برموز الأولياء، وطقوس الزار، وتمائم الرعاة، وأحلام الدراويش.
السلطة كانت بيد القبائل، والفقهاء كانوا موظفين ضمن دائرة الولاء، والفتوى لا تصدر عن علم غالبًا، بل عن إرادة سياسية. وكان الناس، في غالبيتهم، يعبدون الله بعقول أُطفئت، ويستسلمون لتقاليدٍ تحولت إلى أركان لا تُمس. وحين تُحاصر الفكرة بروح الخوف، وتُحرم من فضاء التأمل، لا تنمو معتدلة، بل تتخشب، وتتحول إلى عصا تضرب بها الجماعات بعضها بعضًا.
في هذا المناخ، نشأ محمد بن عبد الوهاب، لا كمجددٍ يرى في التنقية سبيلًا للنهضة، بل كمحاربٍ يظن أن كل انحراف عن عقيدته هو خيانة لله. إن ما تبلور في روحه لم يكن مجرد مشروع دعوي، بل كان رؤية ضيقة للدين، لا تسامح فيها مع المجاز، ولا مساحة فيها للاختلاف، ولا تذوق للجمال الروحي الذي سكبته القرون في الإسلام. كان يبغض التصوف، يكره الشعر، يزدري الموسيقى، ويستنكر الفرح الديني إذا لم يكن صامتًا، باكيًا، متجهمًا.
عاش محمد بن عبد الوهاب طفولته تحت سقف فقهٍ جامد، يتردد بين حلقات الحنابلة ومجالس القُصّاص، حيث يروي الشيوخ حكايات عن النار والخلود، ويصورون الدين وكأنه كتيبة مقاتلين، لا رسالة روح. وورث من أبيه شيئًا من الفقه، لكنه أراد أن يحرق هذا الفقه ويبدأ من نقطةٍ صفر، لا تلوثها بدع الأولين، ولا زخارف الفقهاء.
ولم يكن غريبًا أن يستفزه كل ما يراه انحرافًا عن المعايير التي رسمها هو لنفسه. فقبور الصالحين كانت في نظره أوثانًا، والتوسل كفرًا، والاحتفال بالمولد شركًا، وزيارة المقامات خروجًا من الدين. فكرٌ حادّ لا يقبل الظلال، يرى العالم بلونين فقط: أبيض وأسود.
حين جلس في بيته ذات ليلة، وفتح كتاب “التوحيد” الذي ألّفه لاحقًا، كانت عيناه تقطران لهبًا، وقلبه يتقلب على جمرٍ من النقمة. لقد كتب كتابًا بلا روح، ولا دفء، ولا عاطفة. لا حُسن تبويب، ولا رائحة للغزالي، ولا نسائم من ابن عربي. كتابٌ يقطع، ولا يصل. يقضي، ولا يهذب. يقول: “من ذبح لغير الله، فقد كفر”. ثم لا يتردد في القول: “ومن دعا غير الله، فهو مشرك شركًا أكبر، يخرج به من الملّة”.
في نظره، الشرك لم يكن فقط في عبادة الأصنام، بل حتى في الصلاة عند قبر. في الذبح للولي. في التوسل. في مدح النبي فوق الحد الذي رسمه ابن تيمية. حتى في قول العامة: “ما شاء الله وشئت” رأى شركًا لا يُغتفر.
لقد ولدت فكرة التكفير في ذهنه ولادة مبكرة، ثم تغذّت على حليب التشدد، ونمت كالصبّار في صحراء الذهن. وكان يتلذذ بتلك اللحظة التي ينزع فيها عن المرء إسلامه، كما يُنزع الجلد عن الحيوان. حتى تلامذته، كان يشحذ فيهم هذا السيف منذ نعومة أظفارهم. لا أحد ينجو من الاختبار العقائدي. لا حاكم، ولا فقيه، ولا شيخ، ولا حتى أمهات القرون. كلّهم موضوعون في كفة الشرك أو التوحيد بحسب ما يرى.
لقد أطلق على ما يفعله “دعوة”، لكنه لم يدعُ بها أحدًا بلينٍ أو رفق، بل ألقاها كالمطرقة. فاستفز بها العلماء، وأرعب بها الفقهاء، وشتت بها السلم الأهلي. وحين تنبّه الناس إلى حجم ما يحمل، كانت الحبال قد اشتدت، وكان الزمن قد أفرز له حلفًا متينًا مع رجلٍ لا يقل عنه طموحًا: محمد بن سعود.
لكن قبل التحالف، كان لا بد للفكرة أن تُسلّح. وكان سلاحها ليس العلم ولا الفقه، بل “الولاء والبراء”. هذه الثنائية التي انقلبت في يده من عقيدةٍ قلبية، إلى مشروع سياسي كامل. من لم يوافقه، فقد نقض عُرى الإسلام، ومن لم يبايعه، فقد استباح دمه وعِرضه. وشيئًا فشيئًا، تحوّلت الدعوة إلى دولة، والعقيدة إلى راية حرب.
في المجالس الخاصة، قال لمن حوله: “نحن قومٌ هدانا الله، وسواكُم على ضلالٍ، فلنبدأ في إقامة دين الله بالسيف، لا بالحبر”.
ولم تمر أيام، حتى بدأت السيوف تلمع في يد أتباعه، وتهوي على رقاب البدو الذين رفضوا أن يقرّوا بتوحيده هو، لا بتوحيد الله.
لقد رسم محمد بن عبد الوهاب مشهدًا جديدًا للعنف باسم الدين، لكنه لم يكن عنفًا عشوائيًا، بل عنفًا مؤسسًا، يُبنى على النص، ويُوظف الآية والحديث والفتوى. لم يكن مجرد ردة فعل، بل كان فعلًا مقصودًا، واعيًا، يرى أن السيف هو الطريق الأجدى لهداية من سمّاهم بالمشركين.
وما أغفله أغلب المؤرخين أن هذه اللحظة – لحظة الانتقال من النص إلى الدم – لم تكن مجرد طموح شخصي، بل نتيجة منطقية للفكرة نفسها. فالعقيدة حين تخلق “الآخر الكافر” في كل مكان، لا تملك إلا أن تسفك الدماء لتقيم النقاء. ومن هنا، كانت بداية المجازر.
هذا الفصل من حياته هو أخطر ما فيه: الفصل الذي فيه تماهت الفكرة مع الرغبة، والرؤية مع السيف، والدين مع التوسع. وكان محمد بن عبد الوهاب في عمق لحظته، يظن نفسه نبيًّا من طراز جديد، لا يوحى إليه، لكنه يوحى إلى “الأمة” من خلاله.
لم يكن يجد بأسًا في قتل النساء والأطفال إن هم خالفوا دعوته. فهل يُقتل الطفل لأن أباه مشرك؟ في مذهبه: نعم. وهل تُستباح القبيلة لأنهم قالوا “يا رسول الله” بدل “يا الله”؟ في فكره: نعم. هكذا بدأ فقه السيف الوهابي يتشكل، لا من رحم الشريعة، بل من رحم الخوف والغضب والتضييق على الناس.
هكذا إذن، وبكل قسوة، تكاملت البذرة. نضجت الغرسة. اكتمل الشكل، وبقي فقط من يسقيها دمًا لتورق دولة.