بين مذلة الكفر … وسعادة الإيمان

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف

يظن الإنسان أنه يتحرر عندما يخلع قيود المعتقد والإيمان بالله سبحانه وتعالى ، وأنه بذلك سينطلق يجنى ثمار السعادة والهناء الدنيوية ، فقد رأى فى قرارة نفسه بخلعه عرى الإيمان من عنقه قد ازال من طريقه عقبات الاستمتاع بفعل ما يحلوا له ، فقد اصبح متحررا من الأوامر والنواهى فلا يمنعه إذا مانع.

هذه السطحية الفكرية التى نظرت إلى التعاليم الإلهية على أنها مجرد نصوص فى صحف ، أو كتب يسهل اهمالها وتركها وتعطيلها ، بل يتناولونها على أنها نصوص وضعية شأنها كشأن الوضعيات البشرية الأخرى من القوانين والاعراف ، حتى باتت ثقافة يعتنقها الكثير من الناس

وصارت أخذاً تأخذ به كثير من المجتمعات وللأسف وُضِع الحق والباطل فيه فى وضع سواء

إنها الحرب الأزلية ، التى ابتدأها الشيطان فى بادئ الخلق ويصدرها للخلق على مر العصور . بالتدليس والتزيين والغرور
(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ)

لقد هدم ما سبق من شرع الله تعالى للأمم ، وغرر بهم، وبات الدور على الإسلام ، فزين للبعض أن يضعو ثوابته ونصوصه وشريعته فى موضع الوضع البشرى ، ويوزن بنفس الكيل ، بل أقل ، بل بأبخث منه ثمنا .

ولكى يدعموا هذا الأخذ ، عن قصد عمدوا الى التشكيك فى موارد الشريعة الإسلامية ، ومصادرها ، ورموز الاسلام وعلماءه، ليتأتى لهم خلق جيل ينظر الى الشرع الحنيف نظرته إلى الوضعيات البشرية الاخرى .

بل ويُلتفت إلى الوضعيات البشرية على أنها انفع للمجتمع من شرع الله ومنهاجه

إنها معركة خسرت فيها الأمم السابقة وانهزمت أمام الشيطان
واصبح يجند الكثير منهم لنصره ونصرته على من تبقى من اتباع الحق واولياء الله , فملأ قلوبهم حقداً وحسدا عليهم

قد ذكر الله تعالى معارك المغايرين للإسلام فى هذا الأمر فى مواطن كثيرة فى القرآن الكريم كقول الله تعال (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

امنية وراءها دافع ، هو الحقد والحسد على نعمة الله تعالى .

قد تقلل من شأن الامانى ، ولكنها محرك عظيم فى حياة البشر، وتقوم أحياناً من أجل تحقيقها المعارك والصولات والجولات .

إن الاسلوب الامثل لتحقق هذه الأمنية هو التشكيك فى المعتقد، وفى العمل، وفى الشرائع ، والرموز التى تحمل الراية ، وهو اسلوب قديم بين الأمم .
وآلة من لا يملك الحجة الحقيقية والبرهان .
لأن الحق هو نفسه برهان، ولا يملك احد دفع الحقيقة إلا بالتشكيك ، واستغلال عدم معرفة الناس وجهلهم .
اسلوب تصارعت به الأمم السابقة أيما صراع ، ودب بينهم الخلف والبغى لمجرد الانتصار لما لدى كل امة .
يصور القرآن أيضا هذا الاسلوب بين الأمم المعاصرة فيقول: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).
فهذا الطريق ضارب فى عمق الأمم ، ومن فجر الرسالات السماوية .
المحاججة ،والجدال ، ثم صرف الناس عن المخالف ،
فبكثرة الاتباع تستطيع أن تسود وتحكم ، فهى قوة لا يستهان بها .
من يتبع هذا الاسلوب لا يكون أبدا باحثاً عن الحقيقة، بل مدافعاً عن إرث ورثه ، ومعتقد قلده لا يعرف خيره من شره .
هذا المرض مستشرى فى الانسانية من قديم الازل إلى اليوم ،
مرض وصم الانسانية كلها بالكفر بلا شك .
نعم فالكل يرى من يخالفه كافر ، فبات الكل يكفر الكل وذاقت الإنسانية تعاسة الكفر والتكفير
وباتت الأشلاء الانسانية جراء مجازر الصراع اعظم دليل على هذا الواقع .
ناهيك عن الفُجر الأعظم بادعاء التمايز العرقى ،وسمو جنس على باقى الأجناس .
حتى أن الأمم من داخلها تصارعت وتمايز بعضها على بعض ،
فانقسم اتباع النبى الواحد إلى فرق وجماعات ، واتخذت كل فرقة لها كتبا كتبوها بأيديهم ، وقالوا هى من عند الله لتجعل كل فرقة منهم لنفسها القداسة على غيرها .
إنه عمل ضرب بجذوره فى عمق تاريخ الأمم
يقول الله تعالى :(فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا يَكْسِبُونَ)
ويقول ايضا : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
فهذه كلها محاولات البشر للدوران حول الشرائع وتطويقها ، تمهيداً لاستبدالها والخروج عليها
من داخل الأمم ومن صراع غيرها معها
هل أصاب هذا المرض أمة الاسلام ؟
الحقيقة أنه قدا أصابها ، واستشرى فى جسدها يفتك بها ، ومقاومته ضعيفة جداً
وقد حذر الله تعالى أمة الإسلام من الوقوع فيما وقع فيه من سبق من الأمم .
أيا ما كان الدافع واراء ذلك السقوط المدوى ، ولكن هيهات .
لقد بين القرآن مخاسر من سبق من الأمم ، وعدد ما حل بهم من ويلات ، لكى لا تنزلق أمة الإسلام فى نفس المستنقع .
ولكن هيهات .
بعدما قص الله اتهام الأمم السابقة لبعضهم انهم ليسوا على شئ ، ودارات بينهم الصراعات حتى أنهم صنعوا الاخدود، واضرموا فيه النار ، وحرقت أمةٌ أمةً بالنار بغيا وعدوا،
اشار ضمنا أن أمة الإسلام ستقع فيما وقعت فيه الأمم. وستختلف فيما بينها ،ويشكك بعضها فى بعض ، فقال : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
وقد حدث فتناهى القوم أن يصلوا فى مساجد المخالف ، وشكك كل فرقة فى إمامة مخالفهم والصلاة خلفه .
حتى أن فرقة من المسلمين يوماً ما قتلوا حجاج بيت الله فى المسجد الحرام
وفرقة أخرى قتلوا المصلين يوم الجمعة فى مسجد الروضة وهم يقولون الله اكبر
وآخرون احرقوا الكنائس على من فيها بغيا وظلما وعدوا
ليس إلا أننا اتبعنا سَنَنَ من كان قبلنا من الأمم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم “لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُم شِبْرًا بشبْر، وذراعًا بذراع، حتَّى لو سَلَكُوا جُحْر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ؛ قلنا: يا رسول الله؛ اليهودُ والنَّصارى؟ قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَن؟!”
لقد كان هذا السنن بينهم ولا يزال إلى اليوم ، رغم أن الله تعالى قال أن الانجيل مصدق للتوراة قال تعالى:(وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ)
تأكيد أن الانجيل مصدق للتوارة وعيسى عليه السلام مصدق لها
إلا أن سنن البشر مخالفة الله فاتهم كل منهم الآخر أنه ليس على شئ
هذا حوار القران الكريم يحققه قول النبى صلى الله عليه وسلم ،
لكننا كثيراً ما نلقى التهم على غيرنا ولكن للأسف كما قيل فى المثل
(هذا ماجنته يدى)
احدثنا مثل ما احدثوا ، وقلنا مثل ما قالوا ،وخصنا كالذى خاضوا .

لقد انتزع الله نبيه صلى الله عليه وسلم من ولاية من فرقوا دينهم وكانوا شيعا ، فلم يجعله وليهم ، ولا هم اولياءه، بل يقر إقرارا أنهم بتفريقهم الدين ، وتمزيقهم الأمة ، واتباع سنن من كانوا قبل من الأمم ، صار بعضهم اولياء بعض والله ورسوله منهم براء فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)
ثم قال سبحانه: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)
ان تعاسة تكفير الأمم لبعضها ، والفرق لبعضها ، تعاسة الشقاق والخلاف والصراع ، مما يهدم سعادة الإنسانية ومساعيها نحو الأمن والأمان والبناء والرخاء والازدهار والاستقرار .
إنه بحث عن السعادة المزعومة ، وليست الحقيقية، بحث فى معاقل الشقاء والتعاسة والفناء ،وضياع العمل وانقطاع أمل الناس فى رشد يعود فيحكم الإنسانية من جديد .
إن الإيمان بالله الحقيقى واتباع منهجه الصحيح يصنع الحب، ويرسى قواعد السلام والأمن والأمان ، ويصبغ الانسانية بصبغة المحبة والتكامل والوئام .
لقد أقر الله الاختلاف ، وأمر الأمم أن تتسابق إلى الخيرات ، كل من خلال منهج الله الصحيح ، مما نزل اليهم من الحق ، وأمر بالتعايش والمسالمة والتسامح بين جميع الأمم فقال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)
وقال أيضاً يحض الجميع على التصالح مع المنهج الربانى ، لكل الأمم ، وتصحيح المقتقد فى الله ، والتسابق إلى ارضاءه سبحانه بالعمل الصالح (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)
فكانت السعادة فى الإيمان بالله ، وتحقيق أركانه ومبادءه والاتيان بلوازمه لا بالتخلى عنها وتعطيلها
وكانت التعاسة والشقاء فى الكفر والتكفير
دمتم طيبين