أهل غزة.. بين الغمّة والكرب، بين الموت واللا حياة
15 يوليو، 2025
أخبار العالم الإسلامى

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
في غزة، لا يمكن للعين أن تغفو دون أن تحلم بكابوس، لأن الواقع ذاته أصبح كابوسًا لا ينتهي. مدينةٌ لا تشبه شيئًا سوى ركامها، وقلوب لا تنبض بالحياة بل ترتجف من شدّة الموت. هناك حيث يعيش الناس لا في الحياة ولا في الموت، بل في منزلةٍ بينهما: تسمّى الغُمّة، ويُقال عنها الكرب، وتُعرف بأنها جحيم لا تُرى نيرانه بل تُشمّ رائحته من أنفاس الأطفال الذين صمتوا إلى الأبد.
في غزة، تُولد الطفولة على صراخ الأمهات، وتنام في حضن الدمار. لا فراش هناك إلا حُطام البيوت، ولا وسادة إلا الأحجار، ولا وسيلة للدفء إلا احتضان الموتى. يخرج الطفل من رحم أمه ليُسلّم فورًا إلى يد الحرب، يرضع من ثديها الحصار، ويأكل من مائدة القصف، ويرتوي من دمع أبيه المكابر، وأمّه الصابرة.
ما الذي يمكن أن تصفه الكلمات أمام من فقدوا كل شيء؟ هناك من مات له الأب، والابن، والأخ، والزوج، والبيت، والشارع، والمستقبل، ثم ظلّ حيًّا ليرى العالم يتفرّج عليه كأنّه عرضٌ سينمائي طويل. هناك من بُترت أطرافه وبقي قلبه ينبض بالشوق لطفلٍ لم يعُد، وامرأةٍ غارت تحت الركام. هناك من يجلس بجوار ثلاجة الموتى يومًا ويومًا، علّ أحدًا يأتي ليقول له: “هذه جثّة ابنتك، لقد وجدناها”.
غزة ليست مجرد اسم على خارطةٍ منسية، بل هي وجع متواصل، تنهيدة لا تنتهي، نزيف لا يلتئم. إنها المكان الذي انقلبت فيه المعاني، فصار الصراخ حياة، والبكاء مقاومة، والبقاء على قيد التنفّس إنجازًا يوميًا. لا أمل إلا في السماء، ولا شفاء إلا بالدعاء، ولا سند إلا بالله.

أهل غزة لا يموتون كما يموت الناس، بل يتحوّلون إلى قصائد من دم، وأغاني من وجع، وتاريخٍ لا يُنسى مهما تغيّر الزمان وتواطأت الجغرافيا. يصنعون من موتهم سببًا لحياة غيرهم، ومن أنينهم جرسًا يوقظ الغافلين.
ومع ذلك، فإنهم لا يستسلمون، لأن في قلوبهم وميضًا من نور الحق، وفي أرواحهم جذوة من أمل لا يخبو. حين تفقد أم طفلها، تصرخ: “اللهم تقبّله شهيدًا”، وحين يُصاب الشيخ، يقول: “حسبنا الله ونعم الوكيل”. هذه ليست كلمات استسلام، بل آيات ثبات، ومواقف عظيمة لا يعرفها إلا من جُبلت أرواحهم على الصبر.
الوجع في غزة لا يُوصف، لكنه لا يُنسى. والمأساة فيها لا تُحتمل، لكنها لا تُدفن. ولأن غزة ليست رقمًا، ولا عداد شهداء، ولا شريطًا إخباريًا عابرًا، بل هي قضية، وحقّ، وصوت المظلوم في وجه الطغيان، فإن الألم فيها يلد أملاً، والموت فيها يصنع حياةً أكبر.
غزة اليوم ليست مجرد منطقة منكوبة، بل أصبحت مسرحًا لمأساة وجودية، حياة الإنسان فيها تحوّلت إلى سلسلة من الأزمات المتتالية. لا طعام، لا دواء، لا مأوى، لا مياه نظيفة، لا كهرباء. في كل بيت حكاية فقد، في كل شارع ذكرى شهيد، في كل زقاق صدى نداء استغاثة لم يسمعه العالم.
الأسواق فارغة، والمخابز لا تجد طحينًا، والمستشفيات بلا تجهيزات، بلا دواء، وأغلبها بلا كهرباء، تنيرها الشموع بينما تنطفئ فيها الأرواح. الأطباء يعملون بأيديهم لا بأجهزتهم، يربطون الجروح بقماشٍ ممزق، ويجرون العمليات في ممرات المستشفيات على أضواء هواتفهم المحمولة. بعض الأطفال يموتون من الجفاف، وآخرون من الرعب، والبعض يُولد في العراء، بين الأنقاض.
المدارس لم تعد مكانًا للتعليم، بل صارت ملاجئ للنازحين، ينام فيها الأطفال فوق أكياس الدقيق، وتتقاسم الأسر فيها الحُلم بالنجاة. لا توجد دفاتر، ولا أقلام، ولا أمل، بل مجرد انتظار طويل للمجهول، وقلق دائم من لحظةٍ قد يسقط فيها صاروخ على الملجأ.
في غزة، الزواج صار حلمًا بعيدًا، والفرح مناسبةً غريبة، والضحك عملة نادرة. كم من عروسٍ قُتلت بفستانها الأبيض؟ وكم من شابٍ استُشهد قبل أن يُتم خطبته؟ لا شيء يكتمل هنا سوى الحزن. حتى الجنازات لا تُقام كما يجب، فالميت يُدفن مسرعًا في حفرة جماعية بلا وداع، بلا صلاةٍ أحيانًا، لأن الطائرات لا تنتظر.
أما النساء، فتحوّلن إلى أعمدة البيت المنهار، يقمن على إعالة الأطفال، ودفن الشهداء، ومداواة الجراح، رغم أنهن لا يجدن ما يطعمْن به أبناءهن. الأمهات في غزة أقدس نساء الأرض، وأقواهن، فهنّ من يُكفنّ أولادهن بأيديهن، ويقرأن القرآن على أرواحهم، ثم يربّتن على أكتاف أخوتهم قائلات: “شدّوا حيلكم، لسه الطريق طويل”.
الأطفال؟ لقد كبروا قبل أوانهم. لم يعرفوا طفولةً طبيعية، لم يلعبوا، لم يفرحوا، لم يسافروا، لم يأمنوا. كل طفل في غزة هو مشروع شهيد، وكل ضحكة يُطلقها قد تكون الأخيرة. رسموا على جدران الملاجئ قصصهم، كتبوا أسماءهم على أذرعهم خوفًا من أن يُقتلوا ولا يُعرفوا، وتعلموا أن يناموا وهم يحتضنون أحلامًا صغيرة جدًا: قطعة خبز، شربة ماء، حضن أم، أو نافذة تطل على عالم لا يقصفهم.
غزة… ليست مجرد اسم، إنها نبض الكرامة، وروح الصبر، وشهقة الأمل الأخيرة في وجه هذا العالم المتخم بالصمت والخيانة.
وفي الختام، ستبقى غزة جرحًا في خاصرة الضمير الإنساني، ووصمة على جبين العالم الذي صمّت أذناه عن صرخات أطفالها، وأغلق عينيه عن مشاهد ركامها، واختنق صوته عن قول الحقيقة. ولكننا سنقولها: يا غزة، لن ننساكِ، وإن نسينا، فعارٌ علينا أن نُسمّى بشرًا.
رحم الله الشهداء، وصبّر الأحياء، وأزال الكرب، ورفع الغمّة، وأعاد الحياة لمدينةٍ تمشي في جنازتها كل صباح.