الغلو الديني: أسبابه ومظاهره ووسائل مواجهته بالفكر الواعي
13 يوليو، 2025
منبر الدعاة

بقلم الشيخ :يوسف عزت الشافعي
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
مقدمة تحليلية:
الغلو الديني ليس ظاهرة طارئة على الأمة، بل هو مرض قديم جديد، تكر ر ظهوره في محطات متعددة من تاريخ الإسلام، وكان دائمًا عاملاً في التفرقة، والدمار، والانقسام. غير أن خطورته في العصر الحديث أصبحت أكثر حدة وتأثيرًا، إذ اقترنت بموجات الإرهاب المسلح، وبخطابات التكفير والتحريض، واختلطت فيها الفتاوى المنحرفة بالتكنولوجيا الحديثة، ما جعل أثرها يتعدى الأفراد إلى المجتمعات، والدول ، بل وصورة الإسلام ذاته في عيون العالم.
والمؤلم أن كثيرًا من الغلاة يتحدثون باسم الإسلام، ويستدلون بنصوصه، دون علم، ولا فهم، فيحُيلون الدين من منهج للهداية، إلى أداة للتدمير. فهل هذا هو الإسلام الذي بعُث به النبي ﷺ رحمة للعالمين؟
هل هذه هي الرسالة التي قال الله عنها :
“وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”
لذا، فإن المعركة مع الغلو ليست فقط أمنية أو فقهية، بل هي معركة وعي وفكر وتربية وبصيرة. وفي هذا المقال الموسع، نحُلل هذه الآفة من جذورها، ونقترح وسائل فكرية وتربوية راسخة لمواجهتها.
أولاً : تعريف الغلو وموقعه من الدين
تعريف لغوي:
الغلو لغةً : من “غَلاَ يغَْلوُ” أي تجاوز الحد. وغلا في الشيء: أي أسرف فيه، ورفعه فوق منزلته.
تعريف شرعي:
الغلو في الدين هو: التشدد والمبالغة في التدين، بما يخرج عن حدود الاعتدال الذي جاءت به الشريعة، سواء في الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات.
وقد نهى الإسلام عن الغلو تحذيرًا من عواقبه، فقال النبي ﷺ:
“إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين.” (رواه النسائي وغيره )
وهذا يدل على أن الغلو ليس زيادة في الخير، كما يتوهم البعض، بل هو خروج عن الصراط المستقيم، ولو لبس عباءة “الغيرة على الدين”.
ثانياً: الأسباب العميقة للغلو
ليس الغلو ناتجًا عن تدينٍ زائد كما يشُاع، بل عن فهم قاصر، أو تربية معطوبة، أو بيئة مضطربة. ومن أهم أسبابه:
1. الجهل المركب بالدين
كثير من الغلاة يحفظون ولا يفهمون، ينقلون ولا يحققون، يرددون الفتاوى دون إدراك لمقاصدها وسياقاتها .
يأخذ أحدهم آية من القرآن أو حديثاً من السنة، ويبني عليه حكمًا مطلقاً دون مراعاة:
هل هو عام أم خاص؟
هل هو محكم أم منسوخ؟
ما سبب وروده؟
هل قال به جمهور العلماء؟
وهذا ما يُنتج ما يسمى بـ”الفقه المجتزأ”، وهو أخطر أنواع الفهم.
قال الإمام الشاطبي: “المبتدع لا يدري أنه مبتدع، لأنه لو علم ذلك لترك بدعته” .
2. الانغلاق والتعصب والانعزال
الغلو ينمو في البيئات المغلقة، التي تحصر نفسها في جماعة أو شيخ أو مذهب، وترى أن ما عداها على ضلالة.
وهذا من أعظم عوامل الغلو، لأنه يلغي مساحة الحوار والاجتهاد، ويحول الفكر إلى سجن .
3. الخطاب الديني غير المتزن
حين يُقدَّم الدين على أنه خوف فقط، وعذاب فقط، وتهديد فقط، تتكون نفسية مشوهة، تنظر إلى الناس بشك، وإلى الدنيا كدار هلاك، وإلى الله كمنتقم لا غفور، وإلي العذاب لا الرحمة .
وهذا يُنتج:
نفسية قاسية.
سلوكاً حادًا.
عقلاً مغلقاً.
4. الفقر والبطالة والفرا غ
ليس الغلو شأناً دينياً فحسب، بل له جذور نفسية واجتماعية.
الشاب الذي يشعر بالتهميش والفراغ، يبحث عن معنى، عن قيمة، عن انتماء …
فيلجأ إلى جماعة دينية تغذيه بأفكار مطلقة، تمنحه:
هوية قوية.
شعورًا بالتفوق.
إحساساً بالخلود والشهادة .
5. غياب المرجعية الشرعية الراسخة
حين تغيب المؤسسات الدينية المتجذرة، وتضعف ثقة الناس في العلماء، تظهر المنصات غير المؤهلة، والدعاة غير المتخصصين، فينحرف الخطاب، وتتعدد المرجعيات .
ثالثاً: أبرز مظاهر الغلو في العصر الحديث
1. التكفير السهل
أصبح التكفير عند بعضهم أسهل من التسبيح!
يكُفَّر العامي لأنه لا ينتمي إلى الجماعة الفلانية.
يكُفَّر المسلم لأنه ارتكب معصية!
والحقيقة: أن التكفير له ضوابط صارمة جًدًا في الشريعة، لا يجوز الخوض فيه إلا لعلماء راسخين .
وليس كلأ مباح يتكلم فيه كل من قرأ كتاب وأطلق اللحية وقصر الجلباب
2. تبديع وتفسيق الأمة
تراهم يسُارعون في التبديع:
من احتفل بالمولد: مبتدع.
من قال بمصلحة معتبرة: متساهل .
من خالف شيخهم: ضال .
من أخذ برأي معتبر غير رأيهم فاسق.
وهذا يؤُدي إلى تحقير العلماء، واحتقار المسلمين، والانعزال عن الأمة.
3. تقديم الجهاد القتالي كأعلى صورة للدين
يتم تسويق فكرة أن الجهاد بالسلاح هو قمة التدين، بل هو الطريق الأوحد إلى الجنة، وأن السلم ضعف، وأن التدرج تخاذل .
والحقيقة أن الجهاد في الإسلام أوسع بكثير من القتال، ويشمل:
جهاد النفس .
جهاد الكلمة .
جهاد الإصلاح .
جهاد الدعوة بالحكمة.
4. التشدد في العبادات والمعاملات
تحريم ما أحل الله بدعوى “سد الذرائع.”
رفض التيسير بحجة “التقوى.”
تحقير من يخُفف أو يُرخص له.
والنبي ﷺ ما خُيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.
رابعاً: وسائل المواجهة بالفكر الواعي والتربية الراشدة
1. غرس فقه المقاصد منذ الصغر
تعليم الشباب أن الأحكام في الإسلام خادمة لمقاصد عليا )حفظ النفس – العقل – المال – الدين – العرض( .
حين يُدرك المسلم لماذا شُرع الحكم، تقل حدة التمسك الظاهري، ويزداد الاتزان.
2. تحرير العلاقة بين النص والعقل
العقل ليس خصمًا للنص، بل خادم له.
لكن دون أن يلُغى العقل لصالح الحفظ الأعمى.
يجب أن نُربي على التفسير لا التلقين، على التأمل لا التكرار.
3. تفعيل فقه الاختلاف والتنوع
فهم أن الاختلاف سنة كونية، وقد وقع بين الصحابة في عهد النبي نفسه.
يجب أن يغُرس فينا أن الخلاف لا يعني العداوة، ولا يُنقص الإيمان.
4. دعم العلماء الوسطيين
تمكين العلماء الربانيين، المتجذرين في العلم، المعتدلين في الرؤية، من تصدّر المشهد.
محاربة ظاهرة “الشهرة على حساب العلم .”
5. تطوير الخطاب الديني ليكون واقعياً عصرياً
ربط الدين بقضايا الإنسان: العمل – البيئة – الفقر – العلم – السلوك .
الكف عن الاكتفاء بالخطب الوعظية التقليدية.
خاتمة تحليلية:
الغلو مرض، لكنه ليس قَدَرًا، بل يمكن علاجه والوقاية منه.
وإن أعظم دواء له هو: العلم، والرحمة، والوعي، والفكر النقدي، والمنهج الوسطي.
إننا لا نريد إسلامًا منزوع الروح، ولا ديناً بلا التزام،
لكننا أيضًا لا نريد ديناً يسُتعمل كفأسٍ لقتل الآخرين.
فلنعُيد للإسلام وجهه الحقيقي:
دين السلام لا الإرهاب
دين الرحمة لا الغضب
دين التوازن لا الإفرا ط
دين الإنسان لا العزلة والدمار
اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، واجعلنا ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم.