أخذ الإمام ابن حزم في مجالسة العلماء، والانفتاح على جميع أطياف المجتمع الأندلسي على اختلاف عاداته وتقاليده، وتنوع معارفه وثقافاته، مما يُحِي بتهيئة إلهية لعبقرية فريدة وشخصية مُجددة تقود ثورة إصلاحية في الفكر الأندلسي، تُعظِّم الحجة والدليل، وتنبذ التعصب والتقليد.
وكان أول سماع الإمام ابن حزم للعلم في سن السادسة عشرةَ، ومنذ ذلك الحين وهو يلازم العلماء، ويتردد على مجالسهم، وينهل من معارفهم.
وحياة الترف الأولى للإمام ابن حزم، وحياة الوزارة الثانية، وحياة المِحَن الثالثة، كلها لم تثنه عن طلب العلم والتفقه في الدين والتبحر في مختلف العلوم والفنون، وكان يرى أن حياة الترف الأُولى أولى بمنعه من طلب العلم وأن طلبه فيها أمارةُ صدق على همته وإخلاصه، وبذلك كان يحتج على خصومه، فلمّا ناظره أبو الوليد الباجي وقال له: “أنا أعظم منك همّة في طلب العلم؛ لأنّك طلبته وأنت معان عليه تسهر بمشكاة الذهب، وطلبتُه وأنا أسهر بقنديل حارس السوق”، فرَدَّ عليه الإمام ابن حزم قائلاً: “هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنّك إنّما طلبت العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طَلبتُه في حين ما تعلمُه وما ذكرتَه، فلم أرج به إلاّ علوّ القدر العلمي في الدنيا والآخرة” فشغفُه بالعلم وحرصُه الدؤوبِ عليه، وهمتُه العالية في تحصيله، ولزوم الشيوخ وحفظه السريع وذكائه الحاد، وبديهته الحاضرة كل هذه العوامل ساعدته على تفوقه العلمي، ونبوغه الفكري، وتكوينه المعرفي، وبنائه الثقافي.
ووصف تلميذه الحميدي سعةَ علمه بأنه كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا بعد الرياسة التي كانت له ولأبيه من قَبْله، من الوزارة وتدبير الممالك، متواضعاً ذا فضائل جمة، وتواليف كثيرة في كل ما تحقق به في العلوم،… وما رأينا مثله رحمه الله فيما اجتمع له مع الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين.
وأشار الذهبي إلى أنه كان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكبا على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.
وقال الشيخ محمد أبو زهرة: “وإن الإمام ابن حزم ــ فوق أن فقهه لون من الاستنباط غير ما عليه الأئمة الأربعة، ومَن قاربهم ــ هو في شخصه نوع منفرد بين الفقهاء؛ فهو الباحث والمحدث المجيد، وهو عالم الملل والنحل، المجادل فيها الأريب، وهو الشاعر الناثر الذي يُقارب بشعره فحول الشعراء، ويمتاز نثره بالبراعة في المعنى وجودة الخيال، ونصاعة اللفظ وإشراق الأسلوب.
وقد بدأ الإمام ابن حزم مشواره الفقهي مالكياً؛ حيث كان المذهب المالكي هو السائد في بلاد الأندلس، ثم تحول إلى المذهب الشافعي، ثم انتهى به الأمر إلى المذهب الظاهري، الذي جدد قواعده، وأحيا أصوله بعد أن زال في المشرق، وكاد أن يندثر في المغرب؛ وذلك لأن المذهب الظاهري ـ وبحسب رأي الإمام بن حزم ـ أشدُّ المذاهب تعظيماً لنصوص الكتاب والسنة، وأبعدُها عن القول في الدين بالرأي.