مدينة الخيام (الإنسانية) الصهيونية على أنقاض رفح الفلسطينية


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

ليس من باب الخيال، بل من قلب الكارثة.. تتشكل الآن في ذهن العدو الصهيوني صورة جديدة لغزة، لكنها ليست غزة التي نعرفها.. إنها نسخة مشوهة ممسوخة، يراد لها أن تكون “مدينة الخيام” على أنقاض رفح، اسم إنساني المظهر، شيطاني الجوهر، عنوان لمخطط خبيث تقوده إسرائيل بدعم أمريكي وصمت دولي مخزٍ، لاقتلاع مئات الآلاف من الفلسطينيين من أرضهم ودفعهم قسراً نحو الجنوب، حيث لا سقف ولا جدار، بل خيام مؤقتة تُغرس في الرمال لتكون مقبرة مؤجلة للكرامة والهوية والحق التاريخي.

“المدينة الإنسانية”، كما يسميها الكيان الصهيوني، ما هي إلا واجهة ناعمة لمخطط تهجيري قذر، هدفه إنهاء الوجود الفلسطيني في غزة، أو على الأقل حصره في مساحة لا تصلح للعيش، بحيث تُحوَّل الخيام إلى واقع دائم، وتُنسى القضية رويدًا رويدًا، تحت ركام الحرب ووسط غبار الإعلام المخادع.

تريد إسرائيل أن تُجبر سكان غزة على الهروب من القصف والحصار والجوع، فتدفعهم نحو رفح، ثم نحو الحدود مع مصر، ثم تُحاصرهم داخل “منطقة عازلة” بحجة الأمن، ثم تبدأ ببناء الخيام و”الخدمات الإنسانية” كأنها منظمة خيرية لا تعرف القتل والدمار. لكن الحقيقة التي لا يمكن تزويرها، أن هذا التهجير القسري ما هو إلا تكرار لما حدث في النكبة عام 1948، لكن هذه المرة بصيغة أكثر خيانة، وبرعاية دولية تُجمّل الجريمة بدعوى الإغاثة.

مدينة رفح أصبحت الهدف الأبرز للآلة الصهيونية، فبعد أن دمّروا شمال غزة، وجرفوا وسطها، وخرّبوا بنيتها التحتية، ها هم يتوجهون إلى الجنوب، بزعم مطاردة “حماس”، بينما الهدف الحقيقي هو تطهير جغرافي كامل، وتحويل رفح إلى منطقة خالية من الحياة، لتُبنى مكانها “مدينة الخيام”، بمواصفات تليق بمخطط طويل الأمد لطمس القضية الفلسطينية واستبدالها بـ”أزمة إنسانية” تُحل بالإغاثات والمعونات لا بالعدالة والحقوق.

ليست الخيام نهاية المطاف، بل بداية مشروع كبير لتصفية الوجود الفلسطيني نهائياً. فالخيام مؤقتة ظاهرياً، لكنها تُخطط لتكون دائمة، تنشأ فيها مدارس ومراكز صحية وطرق وشبكات اتصالات، لكن دون هوية أو سيادة، تماماً كما حدث مع مخيمات اللاجئين في الشتات. ومن هناك، تبدأ الضغوط السياسية على مصر والأردن وباقي الدول العربية لقبول “توطين” هؤلاء المشردين، تحت ذريعة “حماية حقوق الإنسان”، فيتحول اللاجئ من ضحية إلى عبء، ومن صاحب حق إلى إنسان بلا قضية.

ليست هذه أول مؤامرة، ولن تكون الأخيرة. فالعدو الصهيوني يدرك أن حرب المدافع قد تربك الشعوب، لكنها لا تمحو حقوقهم، ولذلك فإن أخطر أسلحته ليست الصواريخ، بل الخداع السياسي والإعلامي. يستخدم “الإنسانية” كسلاح، و”المنظمات الدولية” كغطاء، و”المانحين” كشركاء في الجريمة، في حين يُصور نفسه ضحية الإرهاب، بينما هو يمارس أبشع أنواع الإرهاب المنظم ضد شعب أعزل لا يملك إلا الإيمان والكرامة.

إن أخطر ما يُخطط له العدو الآن، هو تحويل مأساة غزة إلى مشهد إنساني مُعادٍ بلا سياق سياسي، وإلغاء صفة الاحتلال، واستبدالها بحالة نزوح وكارثة طبيعية! وهذا في حد ذاته جريمة لا تقل خطورة عن المجازر. لذا فالمعركة الحقيقية اليوم ليست فقط على الأرض، بل في الرواية، في الإعلام، في وعي الشعوب. لا بد من أن تظل الحقيقة صاخبة لا تُكممها الخيام ولا تسجنها المؤتمرات.

وإذا كان العدو الصهيوني قد ظن أن الخيام ستصير وطناً، وأن الأنقاض ستُنسي الذاكرة، وأن الجوع سيكسر العزيمة، فهو واهم… فغزة ليست رقعة جغرافية، بل عقيدة راسخة، ونبض مقاومة لا يُطفأ، وجذوة لا تنطفئ مهما اشتد الحصار أو عظمت المؤامرة. فليعلم الصهاينة ومن يقف خلفهم، أن مدينة الخيام التي يبنونها على أنقاض رفح، لن تكون إلا شاهداً جديداً على وحشيتهم، ودليلاً إضافياً على خزيهم. ولن تكون هذه الخيام إلا مؤقتة في زمنٍ نعرف كيف ينقلب فيه المؤقت إلى بركان رفض وثورة. وستعود رفح، كما كل شبر من فلسطين، عامرة بأهلها، لا بمهجّرين. شامخة بتاريخها، لا بأعمدة قماشية مهترئة. وستكتب الأجيال القادمة أن هناك من حاول طمس فلسطين، لكن الأرض لفظتهم، والتاريخ لعنهم، وصمدت غزة رغم الجراح، لتبقى فلسطين حيّة… لا تموت.