أما آن لك أن تزورنا يا بلال؟


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في زوايا التاريخ، تطل علينا سيرة رجلٍ لم يكن في أعين الناس شيئًا، لكنه في ميزان الله كان كل شيء. عبدٌ حبشي أسود البشرة، لكنه أبيض القلب، نقيّ الفطرة، هو بلال بن رباح رضي الله عنه، مؤذن رسول الله ﷺ، وصاحب أول صوت صدح فوق الكعبة بأعظم نداء عرفته البشرية: “الله أكبر”.

ولد بلال في مكة، في بيت العبودية والحرمان، وكان مملوكًا لأحد جبابرة قريش: أمية بن خلف. لا أحد يعرفه ولا يذكره، مجرد عبد لا رأي له ولا حق. لكنه كان يملك ما لا يملكه سادته من سادة الجاهلية، كان يملك قلبًا حرًّا وعقلًا مفتوحًا، وروحًا تعرف الحق حين تراه. ولما جاءه خبر محمد ﷺ، رسولًا بدين جديد، سكن النور قلبه، ودخل الإسلام دون تردد، فكان من أوائل من أسلموا، رغم أنه يعلم تمامًا أن إسلامه لن يمرّ دون عذاب.

وما أن علم سيده الكافر بإسلامه، حتى بدأ عذاب بلال، عذاب لا يُطاق ولا يُحتمل. كانوا يخرجونه في حر الظهيرة، يطرحونه على الرمال الحارقة، ويضعون الصخر الكبير على صدره، ويقولون له: اكفر بمحمد. فيردّ بصوته المتعب، لكنه ثابت: “أحدٌ… أحد”. لم يكن بلال يصرخ من الألم، بل كان يصرخ بالتوحيد، كان صوته يرتجف من شدة التعذيب، لكن قلبه لا يرتجف من الخوف. كان وحده أمام قريش كلها، لكنه لم يكن أبدًا وحيدًا، فقد كان الله معه.

مرّ عليه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فرآه يُعذّب، فقلبه لم يحتمل، فذهب واشترى بلالًا من أمية بأغلى الأثمان، ثم أعتقه، فقال له النبي ﷺ حينها: “أعتقك أبو بكر سيدنا، وأنت سيدنا”. لقد أصبح بلال بعد العبودية حرًّا بالإسلام، وسيدًا بالإيمان.

ومنذ لحظة تحرّره، لم يبتعد بلال عن النبي ﷺ، كان معه في كل غزوة، في بدر وأحد والخندق وحنين. كان من المقاتلين الشجعان، وكان من القلوب التي أحبت النبي ﷺ بكل جوارحها. لكن بلال لم يكن فقط مجاهدًا، بل كان هو أول مؤذن في الإسلام، بصوته العذب رفع الأذان في المدينة، وكان إذا أذن للصلاة خرج الناس من بيوتهم كأنهم يستقبلون الرسول نفسه، فصوته كان إعلان النور.

ويوم فتح مكة، أمر النبي ﷺ بلالًا أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن، فوقف بلال هناك، فوق البيت الذي طاف حوله الكفار بالأصنام، وصدح بصوته العالي: “الله أكبر الله أكبر”، فكان المشهد صاعقًا لأهل قريش، يرون العبد الحبشي الذي عذبوه، يقف الآن فوق رؤوسهم، يعلن التوحيد. كان الإسلام وحده القادر أن يصنع هذا المشهد: عبدٌ يصبح سيدًا، وسيدٌ يخرّ صامتًا.

لكن اللحظة الأشدّ حزنًا في حياة بلال، كانت يوم مات الحبيب محمد ﷺ. فقد بكى بلال كما لم يبكِ أحد، وتوقف عن الأذان، ورفض أن يؤذن لأحد بعد رسول الله. لم يتحمل أن يرفع صوته بكلمة “أشهد أن محمدًا رسول الله” دون أن يكون محمدٌ بين يديه. ومع الوقت، غادر المدينة، وسافر إلى الشام، وهناك ظلّ بعيدًا عن كل شيء، يحمل الحزن في قلبه كأنه دفن حياته مع النبي.

وذات ليلة، رأى بلال في منامه رسول الله ﷺ، يقول له: “ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورنا؟” فقام من نومه وهو يبكي بكاءً شديدًا، وجهّز راحلته وعاد فورًا إلى المدينة التي لم يزرها منذ وفاة الحبيب. فلما وصلها، خرج الناس يستقبلونه بالبكاء، لقد عاد بلال، عاد صوت الذكريات والوفاء.

رجاه أهل المدينة أن يؤذن، فأبى، فلما ألح عليه الحسن والحسين، سبطا رسول الله، وافق، وصعد إلى الموضع الذي كان يؤذن منه، ورفع صوته: “الله أكبر… الله أكبر”، فارتجّت المدينة كلها بالبكاء، وخرج الناس من بيوتهم، ومنهم من سقط مغشيًّا عليه من شدّة الشوق، وقالوا: “رسول الله قد بُعث!”، ولم يكن ذلك الأذان كغيره، بل كان أذان الوداع، فبعده لم يؤذن بلال مرة أخرى.

عاد إلى الشام، ومرض مرض الموت، فلما حضرته الوفاة، ابتسم وقال لمن حوله: “غدًا نلقى الأحبة، محمدًا وصحبه”، وفاضت روحه الطاهرة، لتسكن في جنات الرحمن، وتظل قصته تروى للأجيال، قصة رجلٍ فقير الجسد، غنيّ الروح، عاش للحق، ومات على الوفاء.

سلام على بلال، الذي علمنا كيف يكون الصبر، وكيف يكون الإيمان، وكيف يكون الحب الحقيقي لرسول الله. وسلام على قلبٍ حين خُيِّر بين الحياة وصوت الحبيب، اختار أن يسكت إلى الأبد، لأن محمدًا لم يعُد في الدنيا.