خطبة بعنوان ( التحذير من الكبر ) لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

خطبة بعنوان ( التحذير من الكبر )
لفضيلة الدكتور محمد جاد قحيف

 

الحمد لله باري البريات ، مجيب الدعوات، كاشف الكربات، عالم الأسرار والخفيات ، سامع الأصوات، وباعث الأموات ..

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الذي أحاط بعلمه وقدرته جميع الكائنات.. وأشهد أن سيدنا محمد عبد الله ورسوله اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم صلاة ترفعنا بها عندك في أعلى الدرجات ، وتغفر لنا بها جميع الذنوب والسيئات ..وبعد:

فلَقَدْ حَرَصَ الدِّينُ الحَنِيفُ عَلَى أَنْ يَعِيشَ النَّاسُ فِي جَوٍّ مِنَ الصَّـفَاءِ، وَأَنْ تَتَطَهَّرَ النُّفُوسُ مِنْ كُلِّ مَا يُكَدِّرُ النَّقَاءَ، أَو يُؤَجِّجُ بَيْنَهُمُ العَدَاوَاتِ وَالشَّحْنَاءَ، فَجَاءَتِ التَّشِريعَاتُ الرَّبّانِيَّةُ نَاهِيَةً عَنْ جُمْـلَةٍ مِنَ الآثَامِ البَاطِنَةِ، التِي تُصِيبُ العَلاَقَةَ بَيْنَ بَنِي المُجتَمَعِ بِالكَدَرِ، يَأْتِي فِي مُقَدِّمَتِها دَاءُ الكِبْرِ الخَطِيرِ، الذِي حَذَّرَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – بقَوْلِهِ: (لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ ..(أخرجه الإمام مسلم)..

العنصر الأول: معنى الكبر وتحذير الإسلام منه ..

الكبر هو الامتناع عن قبول الحق مُعاندة وتَكَبُّراً، والتعالي على الخلق، وعدم التواضع والشعور بأن له منزلة أعلى من غيره، دون وجه حق، والسخرية منهم، والانتقاص من حقهم..

والكبر خصلة ذميمة، وآفة عظيمة، حذر منها الإسلام غاية التحذير،

والكبر، يعني كذلك العجب بالمال والسلطان والغرور بالقوة والأتباع والحسب والأنساب،

والكبر والاستكبار من أقبح الخصال البشرية، ومن الرذائل التي لا ينبغي للإنسان الاتصاف بها.

وهو أول معصية عُصيَ الله بها وبها طرد إبليس من رحمة الله، وكتب عليه الذل والهوان في الدنيا والآخرة..

قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)[البقرة: 34].

والكبر يمنع المستكبر من أن يدعو ربه ويعبده قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غافر:60..

وقد حذر الإسلام من هذا الخلق السيء، وهذه الصفة الذميمة، فقال تعالى على لسان لقمان الحكيم : (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)[لقمان: 18]

وحذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الكبر، فقال: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ” قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: “إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ”[أخرجه الإمام مسلم]..

لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن التجمل الظاهري في الهيئة واللباس أمر محبوب عند الله وليس هو الكبر، وإنما الكبر صفة باطنة في القلب تظهر آثارها في تصرفات الشخص فتحمله على عدم قبول الحق وعلى احتقار الناس..

فلا حرج أن تلبس الثياب الجميلة، والنعل الجميلة، وأن تعتني بمظهرك من غير كبر ولا خيلاء، فذلك من الجمال الذي يحبه الله -تعالى- إذا كان فيما أحله الله وأذن فيه..

العنصر الثاني : الكبرياء من صفات الرحمن

والكبرياء من صفات الرحمن جل جلاله ، لكنه في حق الله صفة مدح، وفي حق المخلوقين صفة ذم، فلا كبرياء لغير الله، فهو المتفرد بالعظمة والجلال والكمال والسلطان ، والعزة والكبرياء..

قال سبحانه: ﴿وَلَهُ ٱلْكِبْريَآءُ فِى ٱلسَّمَوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۖ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ﴾الجاثية /٣٧..

وقال جل جلاله:(هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر/٢٢/ ٢٣]..

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلمَ-: “قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ” (أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة وابن حبان).

فإذا رأيتَ إنسانا متكبرا فاعلم أنه ينتحِلُ صفة لا تليق بضعفه وعجزه وذله وهوانه، وقد قال تعالى في حق هذا الإنسان: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28]..

إن الهلاك والدمار للأفراد والمجتمعات والشعوب المتكبرة أمر حتمي طال الزمان أو قصر ؛ حينما يظنون أنهم تحكموا في العباد والبلاد يفعلون فيهم ما يشاءون من قتل أو حرق أو تهجير ..

فكم من الأمم تكبرت وتجبرت، ومنعها استكبارها من قبول الحق والإذعان له، فأهلكها الله، وجعلها عبرة لكل متكبر جبار. وكم في القرآن من قصص في ذلك ملأى بالدروس والعبر..

فالكِبْرُ سببٌ من أسباب هلاك الأمم السابقة؛ فبكبرهم وعِنادهم طغوا وتجبّرُوا وظلموا وأفسدوا، تمردوا على خالقهم، واستنكفوا عن عبادته، وقاتلوا أنبياءه ورسله، وصدوا عن سبيله، فحق عليهم العذاب، وجاءهم الهلاك، وحل بهم الدمار، قال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ * وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ) [العنكبوت: 39 – 40].

فالله -سبحانه- لا يرضى أن ينازعه في هذه الصفة أحد من خلقه، قال الله -تعالى­-: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ)[فصلت: 15-16].

وقال تعالى عن فرعون وجنوده: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ)[القصص: 38-40..

وكم في الواقع من أحداث ووقائع تبين لنا كيف تكون عاقبة المتكبرين ونهاية الظالمين..

العنصر الثالث : صور الكبر

الكبر والاستكبار له صور عديدة ، منها عدم قبول الحق ..

فعدم اتباع الحق وحب الخير صورة من صور الكبر ، قد يتخلق بها الأفراد، أوتمارسها المجتمعات والدول والشعوب، فالإنسان الذي لا يقبل الشرع، ولا يخضع للحق، مريض بداء الكبر، ولن ينجو في الدنيا والآخرة إلا بتركه وقبول الحق..

قال تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)[لقمان7]..

وقال جل شأنه : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ)[الصافات 35].

ومن صور الكبر ترك الالتزام بسنة رسول الله ، أو مخالفة أمره..

ومن ذلك حينما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلاً يأكل بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: “كُلْ بِيَمِينِكَ” قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: “لَا اسْتَطَعْتَ” مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ”[ أخرجه الإمام مسلم]..

ومن صور الكبر ترك السؤال والعلم

ومن ذلك قول أحد السلف الصالح “لا يطلب العلم مستح ولا مستكبر”

ومن صور الكبر: احتقار الناس وانتقاصهم، وقد قال الله –تعالى- عن استعلاء فرعون وقومه على موسى -عليه السلام- وبني إسرائيل: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً عَالِينَ * فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ)[المؤمنون: 45-47].

ومن صور التكبر: أكل حقوق الناس بالباطل، وذلك لشعوره بأن لا أحد يقوى عليه، أو يستطيع الاقتصاص منه، وقد يكون من يأكل أموالهم من الضعفاء، فتدعوه قوته إلى ظلمهم.

ومن صور الكبر أيضا عدم الاعتراف بنعم الله، وأداء حقوقها من الشكر والبذل والعطاء؛ فهناك من يتكبر بماله وجاهه، ولا يرى لله فيها حقا..

وهذا قارون أنعم الله عليه بالمال والجاه، وكثرة الأتباع، فتكبر على الله، وظن إنما حصل عليه من مال، ومن كنوز الذهب والفضة؛ إنما كان بسبب ذكائه وحنكته، فقال تعالى مبيناً عاقبة الغرور والكبر، محذرا كل مسلم ومسلمة من عواقبه: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)[القصص: 76- 77].

فكان رد قارون جملة واحدة، تحمل شتى معاني الفساد: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي)[القصص: 78].

لقد أنساه غروره مصدر هذه النعمة وحكمتها، وفتنه المال، وأعماه الثراء.

فلم يستمع قارون لنداء قومه، ولم يشعر بنعمة ربه: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ)[القصص: 81].

ومن صور الكبر: التعالي بالهيئة والملبس، والله -سبحانه وتعالى- جميل يحب الجمال، والمسلم مطالب بأن يلبس أحسن الثياب وأجملها، لكن أن تصبح هذه الملابس طريقة ووسيلة لاحتقار الناس، والاستعلاء عليهم؛ فهذا من الكبر الذي قد يحرم صاحبه الجنة؛ يقول عليه الصلاة والسلام: “مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاَءَ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيَامَةِ” قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ شِقَّيْ إِزَارِي يَسْتَرْخِي، إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: “لَسْتَ مِمَّنْ يَصْنَعُهُ خُيَلاَءَ”[أخرجه الإمام البخاري].

وقال أيضاً: “بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي فِي حُلَّةٍ، تُعْجِبُهُ نَفْسُهُ، مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ، إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ”[أخرجه الإمام البخاري]..

ومن صور الكبر: التفاخر بالأحساب والأنساب، والله -عز وجل- يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)[الحجرات: 13].

بالإيمان والتقوى يترجح ميزان الإنسان، ويرتفع قدره عند الله، وما عدا ذلك فلن يغني عنه من الله شيئاً..

لقد وقف صلى الله عليه وسلم يخاطب هذه الأمة في خطبته في حجة الوداع، وطلب من الحاضر أن يبلغ الغائب؛ لأن الأمر هام وعظيم، فقال: “يا أيها الناس! إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13] ألا هل بلغت؟” قالوا: بلى يا رسول الله! قال: “فيبلغ الشاهد الغائب”[أخرجه الحافظ المنذري بصيغة التصحيح]..

ولو كان النسب أو الجنس أو المكانة تنفع صاحبها عند الله لكان ابن نوح -عليه السلام-، وهو فلذة كبده، وقطعة من فؤاده معه في الجنة، قال تعالى مبيناً تلك الحال، وذلك المآل: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنْ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 42-43].

وقال الأصمعي: بينما أنا أطوف بالبيت ذات ليلة في أيام الحج؛ إذ رأيت شاباً متعلقاً بأستار الكعبة، وهو يقول:

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم *** يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت وانتبهـوا*** وأنت يا حي يـا قيـوم لـم تنـم

أدعوك ربي حزينـاً هائمـاً قلقـاً *** فارحم بكائي بحق البيت والحـرم

إن كان جودك لا يرجوه ذو سعة*** فمن يجود على العاصيـن بالكـرم

ثم بكى بكاءاً شديداً، وسقط على الأرض مغشياً عليه، فدنوت منه، فإذا هو زين العابدين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهم أجمعين-، فرفعت رأسه في حجري، وبكيت، فقطرت دمعة من دموعي على خده، ففتح عينيه وقال: “من هذا الذي يهجم علينا؟” قلت: أنا الأصمعي، ما هذا البكاء والجزع، وأنت من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة!؟ فقال: هيهات هيهات يا أصمعي إن الله خلق الجنة لمن أطاعه، ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان حراً قرشياً، أليس الله -تعالى- يقول: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءلُونَ * فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ)[المؤمنون: 101-103]..

العنصر الرابع : آثار الكبر

إن للكبر والاستكبار عواقب وخيمة، وآثار مدمرة ، ونتائجه سيئة في الدنيا والآخرة، من ابتلي به قاده إلى كل سوء، ومنعه من كل خير.

فما من خلق ذميم إلّا وصاحب الكبر مضطرّ إليه ليحفظ كِبْره، وما من خلق محمود إلّا وهو عاجز عنه خوفا من أن يفوته عزّه. فمن ذلك: أنه طريق موصل إلى غضب الله -تعالى- وسخطه، ويورث البعد عن الله، والبعد عن الناس، ويحشر صاحبه يوم القيامة ذليلاً، ويسجن في النار، وبسببه يستحق صاحبه العذاب في النار، والخلود فيها، قال الله -تبارك وتعالى-: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)[الأحقاف: 20]..

والكبر سبب في الإعراض عن الحق، والبعد عن دين الله، والصرف عن آياته؛ فالمتكبر لا يقبل الحق، ولا ينتفع بآيات الله، ولا تؤثر فيه موعظة ولا نصيحة، قال الله -تبارك وتعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) [الأعراف: 146]، وقال سبحانه: (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [الجاثية: 7 – 8]..

والكبر سبب في الحرمان من الجنة؛ لأن طريق الجنة هو الطاعة والعبادة، والكبرُ يمنع صاحبه من الطاعة والعبادة، ويقوده إلى المعصية والرذيلة، فالمتكبر يمنع نفسه من الجنة، ويقود نفسه إلى الهلاك، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 40 – 41].

وعن عبد الله بن مسعود -رَضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- قَالَ: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة مِن كِبْر”( أخرجه الإمام مسلم).

ويقول عليه الصلاة والسلام: “يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الْخَبَالِ”[أخرجه الإمام أحمد وسنده صحيح]..

والمتكبرون هم أهل النار وحطامُها؛ قال صلى الله عليه وسلم: “تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ, قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي ،أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي, وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكمَا مِلْؤُهَا”[متفق عليه].

العنصر الخامس : علاج الكبر

إن معرفة الإنسان لأصله ومآله دواء لهذا الداء ..

أيها المتكبر! من أنت؟ ومِمَّن خلُقت؟ ومن أين خرجت؟ وما هو مآلك..

فأما من أنت ، ومِمَّن خُلقت ، وما هو مآلك؟!. فيجيبك مالك بن دينار رحمه الله، حينما مرَّ عليه المهلب بن أبي صفرة متبختراً، فقال له: أما علمتَ أنها مِشية يكرهها الله إلا بينَ الصَّفينِ؟ فقال المهلَّبُ: أما تعرفني؟ قال: بلى، أوَّلُك نُطفة مَذِرَة، وآخِرُك جيفةٌ قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمِل العَذِرَة. فانكسر، وقال: الآن عَرَفْتَنِي حقَّ المعرفة

وأما من أين خرجت ، فيجيبك الأحنفُ بنُ قيس رحمه الله بقوله: عجبتُ لمن يجري في مَجرى البَول مرَّتين، كيف يتكبَّر!.

يا مظهر الكبر إعجابا بصورته *** انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب

لو فكّر النّاس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرّأس مكرمة *** وهو بخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك *** والعين مرفضّة والثّغر ملعوب

يا بن التّراب ومأكول التّراب غدا *** أقصر فإنّك مأكول ومشروب..

إن على الإنسان أن يدفع الكبر عن نفسه بأن يعرف أصله ونشأته. وفقره وحاجته، ويعرف ربه وعظمته ومقامه بين يديه، يكفيه أن ينظر في أصل وجوده من العدم، من تراب ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة. فقد صار شيئاً مذكوراً. بعد أن كان جماداً لا يسمع ولا يبصر ولا يحس ولا يتحرك فقد ابتدأ بموته قبل حياته، وبضعفه قبل قوته، وبفقره قبل غناه، ثم يموت ويصير تراباً يعذب أو ينعم في قبره ثم يبعث ويحاسب ويجازى بعمله، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك بقوله: (قُتِلَ الأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ* مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ* مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ* ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ *ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ *ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ* كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ) [عبس:17-23] ..

قال ابن تيمية رحمه الله: التكبر شَرٌّ من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره. ا.هـ.

وهو جالب لغضب الرحمن، ولعذابه الشديد، ومانع من محبته سبحانه: ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ﴾

يا عبد الله كيف تتكبر على الله وهو خالقك ورازقك؟ تتكبر على عبادة ربك وقد خلِقتَ من أجلها، وفيها فلاحُك ونجاتك وسعادتك؟ وفي تكبّرك على عبادة الله هلاكك وخسرانك؟ قال عز وجل: (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 172 – 173]، وفي هذا إنذار للمتكبرين أن لا يغتروا بكثرة الأتباع والمعجَبين والمصفقين والمقلدين؛ فإنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا، ويوم القيامة يتبرؤون منهم ومن أعمالهم: (وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)..

وختاماً:

إن المتكبرين قدوتهم إبليس وفرعون وهمان وقارون ، والمتواضعين قدوتهم الأنبياء والصالحين وسيد المرسلين…

وإِنَّ بَعْضَ النَّاسِ قَدْ يَعْمِدُ إِلَى إِصلاَحِ ظَاهِرِهِ، وَيَنْسَى العِنَايَةَ بِجَوهَرِهِ، فَيَنأَى عَنِ المَعَاصِي العَمَلِيَّةِ وَالآثَامِ الظَّاهِرَةِ، وَيَنْسَى العُيُوبَ النَّفْسَانِيَّةَ وَالآفَاتِ القَلْبِيَّةَ، فَإِنَّ الذُّنُوبَ الظَّاهِرَةَ يَسْهُلُ عَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَلْحَظَها بِنَفْسِهِ، أََو يُنَبِّهَهُ عَلَيْهَا غَيْرُهُ، أَمَّا البَاطِنَةُ فَالنَّفْسُ فِيهَا عَامِدَةٌ إِلَى المُرَاوَغَةِ وَالكِتْمَانِ .

قال تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ)[الأنعام:120]، ويقول تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)[الأنعام:151].

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: من كانت معصيته في شهوة فارج له التوبة ، فإن آدم عليه السلام عصى مشتهياً فغفر له لما تاب ..أما إذا كانت معصيته من كِبر فاخشَ عليه اللعنة ، فإن إبليس عصى مستكبراً فلعن .. فمن لاحظ من سريرته شيئاً فليجاهد نفسه وليستغفر ذنبه ظاهره وباطنه ، خاصة ونحن في شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله رب العالمين..

لقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي كُلَّهُ دِقَّهُ وَجِلَّهُ، وَأَوَّلَهُ وَآخِرَهُ، وَعَلَانِيَتَهُ وَسِرَّهُ» أخرجه الإمام مسلم ..

و كان يقول في دعائه: «اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(متفق عليه).

اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلّها، أولها وآخرها، وعلانيتها وسرها ، اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين في كل مكان يارب العالمين ، اللهم عليك بالصياهنة المعتدين اللهم لا تحقق لهم هدفا ولا غاية ولا ترفع لهم راية ..

واللهم احفظ مصر وسائر بلاد المسلمين ، ووحد صفوفهم ، وألف بين قلوبهم

اترك تعليقاً