بقلم الشيخ : محمد رجب أبو تليح الشاذلي الأزهري
إن مقامات الحبيب ﷺ لا يبلغها عقل فيدركها ولا لسان فيوفيها حقها مدحا يليق بها فهو ﷺ فوق هامات الكلام وإن بلغ من الفصاحة والبيان ما بلغ من رفعة وبيان .
لذلك ونحن في استقبال أنوار شهره الأنور ربيع الأول نبحر في عباب بحره الذاخر ﷺ نجمع منه لألئ سنية ونفهم به ومنه ﷺ ما يأذن به الله لنا من الوقوف على إدارك تلك المقامات العلية والأحوال السنية وعلى تفنن واصفيه بوصفه “يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف .
ومن أول هذه المقامات التي تلوح أنوارها وتتجلى أسرارها لقلوب وأفهام أهل محبته ﷺ أسبقية نوره الأكرم وأولية مقامه الأفخم وإدراك تحققه بكونه الأول السابق للخلق نوره ؛ والآخر الخاتم الرحمة للعالمين ظهوره :
اختلف العلماء في أول المخلوقات فمنهم من قال العرش ومنهم من قال الماء ومنهم من قال القلم ….الخ ما أورده العلماء من ٱراء . والكل له أدلته المعتبرة من السنة النبوية المشرفة .
وقد وصف ﷺ بأنه : الأول والٱخر ولعل من قل علمه يبادر الٱن بالاعتراض أو بالتكفير لي ولكنه لو أنصف وتعلم قبل أن يتكلم لعلم ما جهله وما غاب عنه :
أن أسماء الله تعالى وجل شأنه تنقسم إلى قسمين :
– أسماء ذات : وهي الأسماء التي لا يجوز لأحد من الخلق أن يتسمى بها أصلا ولا يوصف بأوصافها كاسم الذات الله جل شأنه ومثل اسم الرحمن والقيوم وذو الجلال والإكرام …. الخ هذه الأسماء الذاتية العلية للمولى سبحانه وتعالى .
– أسماء الصفات: وهي تلك الأسماء التي يوصف بها الله تعالى ويجوز أن يوصف بها المخلوق مع التفرقة بين مقام الخالق في كماله وجلاله في صفته الإلهية وكمال الربوبية فتكون الصفة على إطلاقها بكمالها بدون حد لله تعالى بما يليق بكماله وجلاله المطلق وأما المخلوق فتكون في حقه بما يليق بكماله البشري المحدود بافتقاره لربه جل وعلا المحقق .
ويفرق بين المقامين بقرينة لفظية ك(أل) الكمالية التي تفيد معنى الكمال المطلق في هذه الصفة لله تعالى فمثلا صفة: (رحيم) اسم صفة يطلق على الله تعالى بكماله وجلاله ويوصف بها المخلوق كقوله تعالى في شأن حبيبه ﷺ: “بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” فنجد أنها تجردت من (أل) الكمالية التي تفيد الكمال في الصفة .
لكن حينما تدخل هذه الأل على الاسم فتكون هذه الصفة في إطلاقها لله تعالى بما يليق بكماله وجلاله كقوله تعالى: “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ” فرحمة الله مطلقة لا حد لها بما يليق بكماله وجلاله ورحمة النبي ﷺ محدودة بما يليق بكماله النوري والبشري
وعلى هذا وصف الله تعالى أنبياءه فقال في شأن سيدنا نوح مثلاً: “إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا” وفي شأن إبراهيم: “إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ”… الخ ما ورد في شأنهم عليهم الصلاة والسلام قرٱنا يتلى إلى يوم الدين .
ولما كانت كمالاته ﷺ أعلى مقامات الكمالات النبوية مقارنة بإخوانه الأنبياء خلع الله عليه صفات سنية ورفعه مقامات علية فمما وصف به ( الأول ) ﷺ . قال أبو بكر الواسطي: حظوظ الأنبياء مع تباينها من أربعة أسام وقيام كل فريق منهم باسم منها فمن جمعها كلها فهو أوسطهم ومن فنى عنها بعد ملابستها فهو الكامل التام وهى قوله تعالى: “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ”. انتهى
وهذا ليس من باب الشطحات ولا التقولات بدون دليل حاشا لله . فلا يدلك على هذا غير القرٱن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . فقد أثبت له ﷺ مقام أوليته على كل النبيين والمرسلين وسائر المقربين وها هي الأدلة إثبات الله تعالى تقدمه ﷺ في الخلق على سائر النبيين والمرسلين بما فيهم أبوه ٱدم عليهم السلام أجمعين
قال سبحانه : “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ” .
فهي أوضح نورا من نور الشمس في السماء أنه هو الرسول الأوحد الذي بوجوده تكون جميع الأنبياء والرسل تبعا له إيمانا به وتصديقا ومن جملة أمته ﷺ وهذا له ﷺ خاصة ولا يكون لأحد سواه
روي عن سيدنا عليٌّ كرم الله وجهه في تفسيرها قال : “لم يَبْعِث الله تعالى نبياً من آدم فمَن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد ﷺ”. لئن بُعِثَ وهو حيٌّ ليؤمنن به و لينصرنه .
وحاول كثير ممن قل علمه وكثر جهله أن يصرف هذه الآية عنه ﷺ بزعمه أن رسالة النبي أو الرسول الجديد تنسخ رسالة من قبله وأنها ليست خاصة بالحبيب ﷺ .
وهذا والله لهو البهتان الذي لا يقوم عليه دليل أصلا وأقل ما يرد به هذا الزعم والافتراء أن كلامهم يعني أنه لا يجتمع رسولان في زمان واحد ولو حدث لنسخ الجديد رسالة من قبله المتقدم عليه بعثا ورسالة وصار القديم تبعا للحديث إرسالاً من الله وهذا ما لا يقره عقل ولا شرع ولا تاريخ .
أما العقل فإنه لا يقر ذلك الفضل إلا لواحد فقط وهو سيدنا محمد ﷺ لقوله: “والذي نفسي بيده، لقد جئتُكم بها بيضاءَ نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدِّقوا به، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًّا ما وسعه إلا أن يتَّبعني”.
وأما الشرع ففي هذه الٱية الواضحة وضوح النهار في أن المقصود رسولا واحدا بظهوره تنسخ الرسالات وهذا ما انعقد عليه إيمان أهل الإسلام ولم يكن ذلك لغيره ﷺ من المرسلين .
وأما التاريخ فيبطل زعمهم فقد اجتمع الرسول والاثنان والثلاثة في زمان واحد ولم ينسخ أحدهم رسالة الآخر كاجتماع الخليل إبراهيم ولوط عليهما السلام واجتماع موسى وهارون وعلى تقدير أن صاحب مدين في عهد موسى عليه السلام هو شعيب عليه السلام كما ذهب إليه جمهور من العلماء فيكون قد اجتمع موسى وشعيب وموسى وشعيب وهارون عليهم السلام ولم يبطل أحدهم رسالة الآخر أو نسخها … الخ .
فالمراد هو رسول واحد هو سيد الكونين والثقلين ﷺ الذي بوجوده يجب عليهم جميعا اتباعه والدخول تحت لوائه وشريعته وهذا كائن لا محالة في الآخرة لإظهار شرفه ﷺ فالكل سيكون من خلفه ويحشر تحت لوائه يوم القيامة إظهارا لشرفه وعظيم قدره قال ﷺ “ٱدم فمن دونه تحت لوائي يوم القيامة”.
وكان في الدنيا أيضا بإيمانهم به وأنه رسول الله فهم جميعا من أمته فثبتت أولية خلقه ووجوده نورا ﷺ قبل خلق سائر بني ٱدم والرسل والأنبياء لأن الله تعالى قد أخذ العهد منهم عليه كما ذكر في هذه الٱية .
وأثبت ﷺ هذا المقام لنفسه فقال: “كنت أول الناس في الخلق وآخرهم في البعث”، بل ورقاه ربه سبحانه وتعالى فجعله الأول خلقا والأول في كل حالات الكمال في العبودية له قال عز وجل : “قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ” الزمر 11 ، 12. وقال سبحانه: ”
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ ۖ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” الأنعام 162،163.
وقال سبحانه: “قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ” الزخرف 81. بل أثبت وجوده نورا وروحا شاهدة على أحوال الأمم والرسل عبر الزمان ليشهد عليهم شهادة من رأى وسمع وعلم وذلك فيما قال الله سبحانه في شأنه ﷺ : “فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا” النساء 41.
وكذلك قوله سبحانه: “وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ” النحل 89.
وكما ثبت هذا له في القرٱن أثبته لنفسه ﷺ في أكثر من حديث عنه كقوله ﷺ : “كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد”. أخرجه ابن سعد في الطبقات وأبو نعيم في الحلية والطبراني وهو صحيح. وقوله ﷺ : “كنت أول الأنبياء في الخلق وآخرهم في البعث”. أخرجه الطبراني والحاكم.
وعن العرباض بن سارية عن النبي ﷺ قال: “إني عند الله لخاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته” رواه أحمد، والبيهقي، والحاكم، وقال: صحيح الإسناد. وقوله: لمنجدل، يعني: طريحاً ملقى على الأرض قبل نفخ الروح فيه.
وعن ميسرة الضبي قال: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيا؟ قال ﷺ : “وآدم بين الروح و الجسد”، هذا لفظ رواية الإمام أحمد. ورواه البخاري في تاريخه وأبو نعيم في الحلية.
فإن قال المعترض: لقد اختلف أهل العلم في ذلك الأمر:
هل القلم أول المخلوقات أم العرش أم الماء فقال الحافظ أبو يعلى الهمدانى:
الأصح أن العرش قبل القلم لما ثبت فى الصحيح عن عبد اللّه بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ : “قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء”. فهذا صريح فى أن التقدير وقع بعد خلق العرش،
ووقع عند أول خلق القلم، لحديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: “أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب ، قال : رب وما أكتب؟ قال : اكتب مقادير كل شىء”. رواه أحمد والترمذى وصححه .
ورويا أيضا من حديث أبى رزين العقيلى مرفوعاً: “إن الماء خلق قبل العرش”. وروى السُّدِّى بأسانيد متعددة أن الله لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، فيجمع بينه وبين ما قبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا النور المحمدى والماء والعرش . هذا ما ذكره القسطلانى فى كتاب المواهب اللدنية 1 / 9 – 10
ولم يعلق هو ولا شارحه الزرقانى على هذه الأحاديث. وأما أوَّلية النبيِّ الأعظم ﷺ عند العلماء فشأنٌ مُثْبَتٌ وواقعٌ لا يُنكَرُ على اعتبارات عدة ومنها ما ارتضاه العلماء كالقسطلاني رحمه الله في ” المواهب اللدنية ” في معنى رأيه أن الأولية له ﷺ في الأنوار فإن ذلك لا يبعد، وعلى أن الأولية مطلقة، فهي ثابتة للقلم وللعرش على الخلاف المشهور .
وكذلك ما أشار إليه العجلوني فقال : وقيل: الأولية في كل شيء بالإضافة إلى جنسه، أي أول ما خلق الله من الأنوار نوري
فسلام عليك سيدي يا رسول الله وصلاة كما يحب الله ويرضى . وإلى لقاء مع هذه السلسلة المباركة احتفالاً بمولده ﷺ.