هل المرور عبر الزمن حقيقي ؟

بقلم : د. مصطفى القليوبي الشافعي
أستاذ الفقه وأصوله
وعضو مجمع فقهاء الشريعة بعمان
وعضو الاتحاد العالمي للفقه الشافعي بالهند

 

بسم الله، وبعد :
فمنذ اللحظة الأولى التي ظهرت فيها صورةٌ قديمة لامرأةٍ تسير بين جموع الناس في أوائل القرن العشرين، تمسك بيدها جهازًا يشبه الهاتف المحمول، في زمنٍ لم يكن فيه حتى الهاتف اللاسلكي قد وُجد، بدأ السؤال يخرج من حيّز الخيال إلى فضاء الجدل العلمي والفلسفي. ولم تكن تلك الصورة الوحيدة؛ فقد أعقبتها صور أخرى لأشخاص بملابس أو أدوات لا تنتمي إلى زمنهم الموثَّق، مما دفع كثيرين إلى التساؤل:
أهو خداع بصري؟
أم خلل في التأريخ؟
أم ظاهرة أعمق تتصل بطبيعة الزمن ذاته؟

ثم جاءت حوادث أكثر إثارة؛ كروايات رجلٍ خرج من بيته في إحدى مدن أوروبا في القرن التاسع عشر، ثم عاد – بحسب ما تداولته بعض المصادر – بعد قرابة مائة عام، يسأل عن منزله وأهله، وحين فُتِّش في أمره وُجدت بحوزته أوراق وهوية تعود إلى زمنٍ منقرض، وتطابق سجلات رسمية لم يعد لها وجود إلا في الأرشيف.

وتناقلت بعض المواقع قصة الشاب نوح، الذي ظهر فجأة في عصرٍ لا ينتمي إليه، يتحدث عن شوارع ومتاجر وأشخاص لم تعد موجودة، ثم اختفى كما ظهر، تاركًا خلفه سؤالًا بلا جواب.

وهناك أيضًا عشرات الروايات المتداولة عن أشخاص زُعم أنهم دخلوا مناطق معيّنة ثم خرجوا ليجدوا أن الزمن قد تقدّم سنوات أو عقودًا، بينما لم يشعروا إلا بساعات. هذه الوقائع – مع اختلاف درجات توثيقها – شكّلت المقدمة الكبرى لالتفات العالم المعاصر إلى فكرة المرور عبر الزمن، لا بوصفها حكاية أدبية، بل باعتبارها احتمالًا كونيًا يستحق البحث.

وعند الانتقال إلى رأي علماء المسلمين، يظهر ميزانٌ دقيق لا إنكار فيه لإمكان الفكرة من حيث القدرة الإلهية، ولا جزم فيه بتحققها على وجهٍ بشريٍّ مطلق،
فقد قرر علماء الإسلام أن الزمن مخلوق، داخل في سلطان الله، غير مستقل بذاته، وأن الله يجريه على عباده وفق سنن، لكنه قادر على خرق هذه السنن متى شاء. ولم يقل أحد من العلماء إن الإنسان يملك مفاتيح الزمن، لكنه قيل – تصريحًا أو تلويحًا – إن الزمن ليس قيدًا على قدرة الله ولا على ما يُريه لبعض عباده.

ومن هنا ظهرت اجتهادات معاصرة ترى أن المرور عبر الزمن ممكن في الجملة، لكنه غير مقطوع به من جهة القدرة البشرية أو التكرار المنضبط.

واستدلّ أصحاب هذا الاتجاه برحلة الإسراء والمعراج؛ حيث اجتمع المكان والزمان في صورة لم تعرفها البشرية من قبل. ففي ليلة واحدة، انتقل النبي ﷺ من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرج به إلى السماوات، ورأى الأنبياء جميعًا، وصلّى بهم إمامًا، وكأن الأزمنة قد انطوت في لحظة واحدة، فأنبياء من قرون متباعدة حضروا معه في آنٍ واحد.

وفي المعراج رأى ﷺ الجنة والنار، ورأى أقوامًا يُعذَّبون وآخرين يُنعَّمون، واطّلع على مصائر مستقبلية لم تكن قد وقعت بعد في حساب البشر، ثم عاد إلى الأرض في الليلة نفسها، دون أن يُفقد أثر الزمن على من خلّفهم وراءه.

وقد رأى بعض الباحثين أن هذا الحدث يُثبت إمكان خرق الزمن واقعًا، لا على وجه التحكم البشري، بل على وجه الإذن الإلهي.

ويُلحق بذلك ما يشبهه في المعنى، كقصة أصحاب الكهف الذين لبثوا ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعًا، ثم قاموا وهم يظنون أنهم لبثوا يومًا أو بعض يوم، وقصة الرجل الذي أماته الله مائة عام ثم بعثه، فلم يشعر بطول المدة بينما تغيّر العالم من حوله. فهذه الوقائع القرآنية تقرّر أن الإحساس بالزمن ليس واحدًا، وأن مرور الزمن قد ينفصل عن إدراك الإنسان له.

واستأنس بعضهم أيضًا بحادثة سيدنا عمر رضي الله عنه حين نادى: «يا سارية الجبل الجبل»، فسمعه سارية وهو في ساحة القتال على مسافات شاسعة، فغيّر مساره ونجا الجيش. فرأوا في ذلك دلالة على انكسار الحواجز الزمنية والمكانية بإذن الله.

وكذلك قصة خبيب بن عدي – رضي الله عنه- عندما أسرته قريش، وقبل قتله طلب أن يصلي ركعتين، فأوجز فيهما، ثم قال: لو لا أن تظنوا أن ما بي جزع من الموت لزدت، ثم دعا الله أن يبلغ نبيه السلام، فكان النبي ﷺ واقفًا بين أصحابه فقال: «وعليك السلام»، ثم قال: الآن مات خبيب. فاعتُبر ذلك مثالًا على تزامن حدثين في مكانين متباعدين، وكأن الزمن قد اختُصر بينهما.

أما العلماء الغربيون والفيزيائيون، فقد خاضوا المسألة من زاوية أخرى، بعيدًا عن الغيب والوحي، لكنهم وصلوا إلى نتائج مدهشة،
فمنذ أن قرر ألبرت أينشتاين في نظريته النسبية أن الزمن ليس مطلقًا، بل يتباطأ أو يتسارع بحسب السرعة والجاذبية، بدأ الحديث الجاد عن إمكان السفر عبر الزمن نظريًا.

وأثبتت المعادلات أن الزمن يتباطأ كلما اقترب الجسم من سرعة الضوء، حتى يكاد يتوقف عند بلوغها.

وذهب بعض الفيزيائيين إلى أن تجاوز سرعة الضوء – إن أمكن – قد يفتح الباب نظريًا للعودة إلى الماضي أو القفز إلى المستقبل، لأن العلاقة بين السبب والنتيجة تبدأ في الانعكاس عند تلك السرعات. وتحدّث آخرون عن الثقوب السوداء، والثقوب الدودية، بوصفها ممرات محتملة تربط نقاطًا زمنية مختلفة، وإن كان ذلك ما يزال في إطار النماذج الرياضية لا التجارب العملية.

وذكرت دراسات معاصرة أن رواد الفضاء الذين يتحركون بسرعات عالية يعودون إلى الأرض وقد مرّ عليهم زمن أقل من الزمن الذي مرّ على من بقي فيها، وهو ما سُمّي بـ”تمدد الزمن”، وقد ثبت ذلك تجريبيًا بالساعات الذرية. وهذا عندهم بذرة علمية لفكرة المرور عبر الزمن، لا بمعناها السينمائي، بل بمعناها الفيزيائي الواقعي.

وهكذا تلتقي الخيوط:
– وقائع تاريخية غامضة،
– ونصوص دينية تقرّر مرونة الزمن،
– ونظريات علمية تؤكد نسبيته،
– واجتهادات معاصرة تقول: المرور عبر الزمن ممكن من حيث الإمكان العقلي والكوني، لكنه غير مقطوع به من حيث التحقيق العملي العام.

ويبقى الزمن لغزًا مفتوحًا، لا يُغلق بإنكارٍ متعجّل، ولا يُفتح بجزمٍ متهوّر، بل يُترك في موضعه الصحيح
بابٌ من أبواب القدرة الإلهية، وحدٌّ من حدود البحث الإنساني، وسرٌّ لم يُكشف كله بعد.
وسبحان القائل (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) . والله أعلم