التراث والحداثة : صدام أم تكامل؟


بقلم د. بدر الفيومي

دكتوراه في الفلسفة والفكر العربي والإسلامي المعاصر

 

يُقدَّم الصراع بين التراث والحداثة في الخطاب العربي المعاصر على أنه مواجهة حتمية، وكأنها معركة لا تقبل التعايش، ولا يمكن لأحد الطرفين أن يحيا إلا على أنقاض الآخر، وهو تصوير قائم على نوع من التناظر والتساجل الخطابي المفتعل، بعيدًا عن قراءة تاريخية أو معرفية دقيقة. نعم، إن هذا التصوير قد أعيد إنتاجه مرات عديدة في أدبيات بعض الحداثيين، كما أعيد صياغته عند بعض المحافظين، وكل ذلك يخدم نهج المغرضين الذي يهدف إلى الخصومة أكثر من السعي إلى الفهم، والاستقطاب أكثر من البحث عن التحليل العميق.

والحقيقة أن التراث الإسلامي لم يكن بنية مغلقة أو كيانًا ساكنًا؛ بل كان نسقًا متحركًا، وفضاءً خصبًا للصراع الفكري والحركة المعرفية، حيث يتفاعل مع الواقع ويمتص الوافد ويعيد إنتاجه ضمن منظومته الداخلية. لذا، لا ينبغي أن يكون السؤال: هل نختار التراث أم الحداثة؟، بل يكون؛ كيف يمكننا فهم التراث، واستيعاب آليات اشتغاله، وكيفية استقبال الجديد، ولماذا تبدو بعض القراءات الحديثة متوترة أو مشوّهة، بل وعدائية أحيانًا.

وإذا تأملنا تاريخ الحضارة الإسلامية، يتجلى أن التراث لم يُنتج في فراغ، ولم ينشأ عن قطيعة مع منجزات الأمم السابقة. بل نشأ في فضاء تفاعلي واسع، انفتحت فيه العقلية الإسلامية على الفلسفة اليونانية، وعلوم الفرس، ومنطق الهند، والرياضيات السريانية، والطب الإغريقي، لكنها لم تكن عملية نقل آلية أو استيراد ساذج. وكان هناك هضم معرفي معقد، تمت إعادة تركيبه ضمن نسقية جديدة، مراعياً حاجات المجتمع وأسئلته الوجودية والتشريعية والسياسية.

ومن هذا المنطلق، فإن الادعاء بأن التراث ضد الحداثة ادعاء متهافت، لأن التراث ذاته هو نتاج تطور مستمر لم يتجمد في أي حقبة. ومما يدل على ذلك أن الحضارة الإسلامية قد استوعبت الفلسفة اليونانية، لكنها أعادت تأويلها في ضوء القضايا العقدية والشرعية، فظهر الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، كمفكرين أعادوا إنتاج الفلسفة ضمن أفق إسلامي خاص، وليسوا مجرد نسخ عربية من أفلاطون وأرسطو، وبالمثل، في علوم الفرس والإدارة والسياسة، تم دمج الخبرات لبناء الدولة الإسلامية، واستُفيد من منطق الهند في الحساب والفلك، فكانت النتيجة حضارة مركبة لا تختزل في عنصر واحد. وهذا يثبت أن التراث لم يكن يومًا معاديًا للعقل، حيث تثار شبهات كثيرة تصور التراث الإسلامي قائمًا على النقل المحض، أو معادٍ للعقل.

وقد نشأت هذه الصورة نتيجة تبديد المثاقفين بين معسكرين؛ أحدهما يدافع بلا تمييز، وآخر يهاجم بلا فهم، مما أغلق الباب أمام قراءة متوازنة وموضوعية. غير أن نظرة فاحصة إلى علوم الإسلام الكبرى تكشف عكس ذلك تمامًا، إذ لا يمكن تصور علم أصول الفقه، مثلًا، دون عقل فاعل يوازن بين النصوص، ويفرق بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، ويستنبط العلل، ويقيس الفروع على الأصول. كما لا يمكن فهم علم الكلام إلا بوصفه محاولة عقلية منظمة للدفاع عن العقائد، باستخدام أدوات المنطق والحجاج والاستدلال، وهو ما تجلى في مدارس متعددة، من المعتزلة إلى الأشاعرة والماتريدية على اختلاف منطلقاتهم.

وعلم الحديث، الذي يُقدَّم أحيانًا بوصفه نموذجًا للتقديس غير النقدي، فإن منهج التصحيح والتضعيف فيه يكشف عن عقل نقدي صارم، يغربل الرواة، ويفحص الأسانيد، ويرفض كثيرًا منها وفق غرابيل دقيقة، بعيدًا عن ترويج أي إفك المتآمرين الأغيار. وفي الفلسفة الإسلامية، بلغ العقل ذروة حضوره، لا بوصفه نقيضًا للوحي، بل كأداة لفهم الكون والإنسان والنص معًا.

 فالأمة التي أنجبت الغزالي، الذي نقد الفلسفة من داخلها، وابن رشد، الذي دافع عن العقل الفلسفي كطريق مشروع لمعرفة الله، وابن تيمية، الذي مارس نقدًا عقليًا للنقل الزائف، وابن خلدون، الذي أسس علم العمران البشري بمنهج استقرائي، لا يمكن اختزال تراثها في تهمة معاداة العقل.

ومع ذلك، تكمن الإشكالية الكبرى في منهجية القراءة. النص الواحد يمكن أن يُنتج دلالات مختلفة وفق المنهج المستخدم، وهذا ما دفع بعض المتصاولين والمدافعين إلى الانتقال من نقد الأفكار إلى نقد النقد، أو قراءة القراءة، حيث يصبح التركيز ليس على النص ذاته، بل على كيفية توظيفه وتأويله. فقد قرأ السلف النصوص ضمن سياق لغوي ومعيشي مباشر، فتباين فهمهم لبعض الألفاظ كـالربا أو الظلم أو الفتنة بحسب السياق الاجتماعي، دون الحاجة إلى نظريات تجريدية، لأن النص كان مندمجًا في حياتهم اليومية.

ثم جاءت مرحلة الأصوليين، حيث ظهرت الحاجة إلى تقعيد مناهج الاستدلال، وضبط آليات الفهم، فكتب الشافعي الرسالة واضعًا أسس الاستنباط، مميزًا بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والظاهر والمؤول، وهو ما يفسر اختلاف الفقهاء في أحكام واحدة، ليس نتيجة اضطراب النص، بل لاختلاف مناهج الترجيح وقواعد الاستدلال.

وحين انتقل التراث إلى باحثين من خارج دائرته الحضارية، جاءت قراءات المستشرقين محمَّلة بأسئلة الغرب، وافتراضات معرفية مسبقة. فقرأ بعضهم النصوص بالنظر إلى الجذور الوثنية أو التأثيرات التوراتية، كما فعل غولدزيهر في دراسة الحديث النبوي، متجاهلين المنهج الداخلي لعلم الحديث. ونتيجة لذلك، ظهرت سرديات قائمة على إفك المتآمرين الأغيار وفرضيات خارجية لم يُنتج التراث الإسلامي للإجابة عنها.

وفي العصر الحديث، ظهرت قراءات عربية متأثرة بالمناهج البنيوية والتفكيكية، متأثرة بالمقاربات الغربية في تحليل النصوص. فتعاملت بعض هذه القراءات مع القرآن والسنة وكتب الفقه كخطابات مغلقة، أو نصوص سلطة، مما دفع المتأولين والمجترفين والمجترئين إلى التلاعب بالسياق والترويج لأفكارهم تحت شعار التنوير، متجاوزين التمييز بين النص التأسيسي والتاريخي، أو بين ما هو تعبدي واجتماعي. وكثير من هذه القراءات انتهت إلى نتائج متعسفة بسبب عزل النص عن منظومته العقدية والأخلاقية.

ومن ثم، فإن الإشكالات المنسوبة للتراث غالبًا ما تعود إلى أدوات القراءة، لا إلى التراث ذاته. وهذا الصراع لم يكن علامة ضعف، بل كان مصدر ثراء وحيوية، بعيدًا عن استباحة قتل الأغيار فكريًا أو رمزيًا. كما أن صورة التراث لم تُنتج فقط داخليًا، بل ساهم في تشكيلها معاصرون من غير المسلمين، من يهود ومسيحيين وزرادشتيين، الذين دوّنوا انطباعاتهم، مما يعكس حيوية الفكر وتسامحه العلمي في المدن الإسلامية الكبرى.

ومع ذلك، ظل هذا المجال مهمَلًا في الأكاديميا العربية، رغم أهميته في تفكيك الصور النمطية عن التراث المنغلق أو الإقصائي. وعلى عكس الخطابات التبسيطية، لم يكن التراث الإسلامي كيانًا متجانسًا أو صوتًا واحدًا، بل كان فضاءً للصراع المعرفي بين مدارس واتجاهات متعددة. شهدت اللغة جدالات بين الكوفيين والبصريين، واختلف المحدثون والمتكلمون في ترتيب مصادر المعرفة، واحتدم النقاش بين الفلاسفة والأصوليين حول حدود العقل والنقل. ولم يكن هذا تباينًا ضعيفًا، بل مصدر ثراء وحيوية، إذ أن تقدم التراث تحقق عبر الحوار والنقد والغربلة الفكرية، لا عبر إجماع صامت.

ومع تصاعد موجات نقد التراث الحديث، ظهرت كتابات شعاراتها التفكيك والتنوير، لكنها وقعت غالبًا في أخطاء منهجية جسيمة، مثل الانتقائية في الاستشهاد، أو إسقاط مفاهيم الحاضر على سياقات الماضي، أو التعميم من شواذ الأقوال، أو تجاهل البنية الكلية للتراث. ومن هنا تظهر أهمية نقد النقد، ليس دفاعًا أعمى عن الماضي، بل دفاعًا عن المنهج العلمي في القراءة والتحليل. فإعادة بناء التراث لا تعني إحياءه بصورة متحفية، ولا القطيعة معه، بل الجمع بين منهج التحقيق التقليدي القائم على الأسانيد والمقابلة والنقول، وبين أدوات العلوم الإنسانية الحديثة، من نقد نصي وتحليل تاريخي وبنيوي، في إطار تكاملي بعيد عن الإقصاء. فالتراث ليس ملكًا للماضي وحده، بل مورد معرفي يمكن استثماره إذا أُحسن التعامل معه.

وتتجلى إحدى الإشكاليات الكبرى في الخلط بين إطلاقية النص وثباته وتاريخية الفهم، حيث أغفل كثير من القراء التمييز بين قدسية النص وحدود إدراك الإنسان له، وأهمية الاجتهاد لفهم المتغيرات دون المساس بأصل النص. يزداد التعقيد عند ملاحظة التشابهات الخفية بين قراءة المستشرقين وبعض الحداثيين العرب، إذ كلاهما يعتمد على منهجية تفكيكية تغفل السياق الداخلي للنص وتفصله عن منظومته المرجعية، ما يؤدي إلى قراءة ناقصة وغير منصفة.

وفي ضوء ما سبق، يتضح أن العلاقة بين التراث والحداثة ليست صدامًا حتميًا، بل توترًا خلاقًا يمكن أن يتحول إلى تكامل إذا أُعيد بناء الوعي بطبيعة التراث وآليات اشتغاله وحدود المناهج المعاصرة. فالتراث ليس عبئًا على الحاضر، والحداثة ليست تهديدًا للهوية، بل يكمن الخطر في القراءات السطحية، سواء أكانت تقديسية أو تفكيكية، وفي غياب مشروع معرفي قادر على ربط ما انقطع دون أن يذيب الفوارق أو يلغي الخصوصيات.