أهمية الحوار الأسري


بقلم : د. محمد جمال أبو سنينة

مدير المركز القانوني لفض النزاعات
الخبير بمجمع الفقه الإسلامي بكندا
قاضي محكمة الاستئناف الشرعية سابقا

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وآله ومن والاه إلى يوم الدين، وبعد:

العلاقة بين الرجل والمرأة ليست صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة، ولا ضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية، ولا تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة، ولا هي علاقة عدمها خير من وجودها إذا تأتَّى للرجل أو للمرأة أن يستغني عنها.

ولكنها علاقة إنسانية جديرة بالاحترام والتقديس، فهي علاقة بين الزوج والزوجة، وبين الزوجين والأبناء، وبين هؤلاء جميعاً والأبوين، إلا أنها مع هذه العلاقات المتعدَّدة التي تُشكّل حجر الأساس في البناء الاجتماعي، وتشمل الزوجين والأبناء والآباء تبدأ في حقيقتها باجتماع رجل وامرأة في حياة واحدة ذات هدف مشترك، هو إثراء الحياة بمزيد من الحبّ والنسل الصالح.

وهذا هو الأساس الذي وضعه الإسلام لنظام الأسرة في القرآن، والذي يتلخص في أن الزواج علاقة من نوع خاص، علاقة باقية وصحبة دائمة ممتدَّة عبر أيام الحياة وبعد الممات في دار الخلود، ولذلك سمى الزوجة صاحبة فقال: ( يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ )، المعارج :11-14.

ولا بد لنا من العلم بأن نتيجة الانحسار المتواصل في القيم الدينية والروحية والجماعية في المجتمعات البشرية عموما، ونتيجة لطغيان القيم المادية والجسدية والفردية، إضافة إلى ازدياد تعقيدات الحياة في مجتمعاتنا المعاصرة، فقد اجتاحت هذه المجتمعات مشكلات عديدة؛ وذلك بنسبة توازي انحسار القيم الدينية السماوية فيها، مصداقا لقوله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) طه: 124، وقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) الزخرف: 36.

وازدياد نِسَب الطلاق هو أحد هذه المشكلات التي عمّت الشرق والغرب، واكتوت بلهيبها كثير من المجتمعات، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية.

ومع ما نشهده في الوقت الحالي من مدّ متواصل في القيم المادية، وانخفاض متواصل في القيم الدينية والروحية، نتيجة للهيمنة العالمية للفكر المادي عسكريا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا، ومع السعي الحثيث لدول العالم الثالث نحو العولمة والانفتاح طَوْعا أو كَرْها، فلا نتوقع إمكانية الحل الجذري لمشكلة ازدياد نسب الطلاق في المستقبل القريب؛ إذ هذه المشكلة عَرَضٌ لمرض وليست هي المرض نفسه، وعلاج العَرض وإن كان ممكنا ومطلوبا إلا أنه ليس ناجعا بل هو مجرد تخدير وتأخير، والمطلوب هو استئصال المرض بالكلية، ولكن لما كان ما لا يُدرك كله لا يُترك جله، وكانت إضاءة شمعة خير من لعن الظلام، فقد اخترت أن أدعو في هذا المقام إلى أمر هام سوف يؤدي إلى تجفيف أسباب الطلاق أو على الأقل تخفيض أسبابه عن طرق الحوار بين الزوجين بصورة هادئة واعية عقلانية بعيدة عن التشنج والتعصب، فالحوار هو فن التفاعل المعرفي والعاطفي والسلوكي مع الآخرين. ويعتبر الحوار الأسري هو أساس بناء الأسرة. فهو لغة تفاهم بين الزوج والزوجة أولا وبين الوالدين وأطفالهما. فمن خلال الحوار الأسري يزداد التفاعل الاجتماعي بين الزوجين ويفهم بعضهم الآخر فهما جيدا وتقصر المسافة بينهما ويشارك كل منهما الأخر في همومه ومشاعره وأفكاره ويتمكن الزوجان من حل مشاكلهما بكل هدوء بعيدا عن النزاعات والتشنج. فبناء الأسرة السليم يقوم على لغة الحوار الايجابي والذي فيه يحترم كل طرف رأي الآخر وينصت له، وليس الحوار السلبي والذي يعني فرض الرأي والتعصب له وعدم احترام رأي الآخر.

إن الحوار الايجابي يخلق جو أسري يسوده الود والاحترام والإشباع النفسي والاجتماعي لأفراد الأسرة واحترام الآخر مما يؤدي إلى استقرار الأسرة واستمراريتها كمؤسسة اجتماعية تقوم بتأدية جميع وظائفها المناطة بها بكفاءة عالية.

أما إذا اختفى الحوار في الأسرة فإن ذلك سيؤدي إلى انخفاض في مستوى التفاعل الاجتماعي بين أفرادها ويصبح كل فرد ينسج حياته بمفرده ويعيش عالمه الخاص به. ويصبح وجوده في الأسرة جسدا بلا روح وتنشأ النزاعات بين أفراد الأسرة لأن لغة التفاهم بينهم تكون قائمة على التمركز حول الذات أي التسلط، وفرض الرأي، مما ينجم عنه تفكك الأسرة معنويا وهو بمستوى خطورة التفكك المادي للأسرة بالطلاق أو الانفصال. ومن خلال معالجاتي واطلاعي بحكم عملي على العديد من الحالات الأسرية فإنني أجزم بأن غياب الحوار في الأسرة من أهم أسباب الطلاق.

ويرجع غياب الحوار الأسري بين الزوجين إلى جملة من العوامل نذكر منها:

• الخلفية الثقافية والاجتماعية للزوجين. حيث قد يكون أحد الزوجين أو كلاهما أتى من بيئة أو أسرة لا تدعم الحوار الايجابي. أي انه أتى من ثقافة الأمر والنهي والتسلط وفرض الرأي، فهو أو هي قد يجهل أو لا يؤمن بدور الحوار وأهميته في خلق جو من المودة والتراحم.

ويمكن التغلب على هذا السبب؛ من خلال التوعية بأهمية وطريقة الحوار الإيجابي.

• تمر العلاقات الخاصة بين الزوجين في مرحلة من مراحل حياتهما الأسرية إلى فتور، ويمكن تجاوز هذه المرحلة من خلال التجديد في الحياة الأسرية كالسفر سويا أو التغيير في مزاولة بعض الأنشطة المنزلية أو إضافة أنشطة جديدة.

• الخبرات السابقة غير الجيدة للزوجين في نقاش موضوع ما لديهما والذي قد نجم عنه خلاف كبير بينهما، لذا فهما يميلان إلى عدم تكرار التجربة. عنصر المبادرة هنا مهم جدا من كلا الزوجين بالاعتراف والاعتذار عن سوء الفهم في ذلك الموقف هذا من شانه أن يشجع كلا الزوجين احترام رأي الأخر مما يمهد لحوار ايجابي جديد.

• التغير الاجتماعي الذي أصاب الحياة بأكملها وما صاحب ذلك من ظهور وتنوع وتعدد في الاهتمامات الشخصية، والرغبة في تكوين علاقات خارج نطاق الأسرة تشترك في نفس الاهتمامات والميول والرغبات، حيث نجد أحيانا أفراد الأسرة الواحدة في منزل واحد ولكن كل واحد منهم يعيش عالمه الخاص به من خلال اتصاله بآخرين عبر شبكات الانترنت والجوال وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة. فهو موجود بجسده فقط في المنزل.

وهذا أدى إلى ضعف في دور الأسرة كبيئة توفر الإشباع النفسي والاجتماعي والروحي لأفرادها. فهذا الانفتاح المنفتح بلا ضوابط على العالم الخارجي من خلال وسائل الاتصال الحديثة، لم يستطع مجتمعنا استيعابه، مما أحدث خللا في بناء المجتمع.

وعليه فإن على الأبوين فهم مطالب أبناءهم واحتياجاتهم ومشاركتهم باهتماماتهم ورغباتهم، وذلك لإبعادهم تدريجيا عن عالمهم الافتراضي إلى عالمهم الحقيقي ولا يتم ذلك إلى من خلال الحوار الإيجابي الهادئ.

• تكاليف الحياة العصرية وارتفاع مستوى المعيشة، يجعل الزوج منهكا في تلبية احتياجات الأسرة، مما ينعكس سلبيا على نفسية الزوج فتنعدم لديه الرغبة في بدء حوار إيجابي فيميل إلى الصمت أكثر أو إلى الحوار السلبي، هنا يأتي دور الزوجة والأبناء في توفير جو ملائم للأب حتى يكون المنزل بالنسبة اليه هو السكن والراحة.
إن قيام الزوجة والأبناء بمثل هذا الدور يعني أنهم تفهموا احتياجات الأب مما يخلق جوا ملائما للحوار الايجابي.

إن غياب الحوار الإيجابي الأسري له آثار اجتماعية أوجزها في الآتي:

• تفكك الأسرة معنويا. بمعنى أن يسود جو الأسرة الشجار والعنف والتسلط.

• فقدان أفراد الأسرة الشعور بالأمان.

• فشل الأسرة في تأدية وظائفها الاجت
ماعية.

• ارتفاع نسبة الطلاق.

• ضياع الأبناء وبحثهم عن ملجأ آخر غير الأسرة لإشباع احتياجاتهم.

إن تنشئة الأبناء في جو يفتقد إلى الحوار الايجابي يؤدي إلى ظهور أجيال تستمر في ممارسة الحوار السلبي أي التسلط وفرض الرأي وعدم احترام الآخر.

علينا جميعا أن نبدأ بأنفسنا بممارسة الحوار الايجابي، ونشجع أبناءنا عليه من خلال الاستماع والإنصات إلى ما يقوله الآخر، في ذكر همومه وما يشغله، وما يفكر فيه، لنبادله الرأي، والمشورة، والتوجيه لنخلق بيئة أسرية سليمة نفسيا واجتماعيا ننشئ بها أبناؤنا تنشئة سليمة.

هذا والله هو الهادي إلى سواء السبيل.