حين ربّى النبي ﷺ المجتمع على العطاء دون إحراج
18 ديسمبر، 2025
بستان النبوة

بقلم فضيلة الشيخ : إبراهيم رضوان
امام وخطيب المسجد الجامع بمدينة الشروق
قراءة إنسانية في قصة سُلَيْك الغِطْفاني رضي الله عنه
ليس الإحسانُ الحقيقيّ هو أن تُعطي فحسب،
بل أن تعطي دون أن تَكسر قلبًا، أو تجرح كرامة، أو تُشعر محتاجًا بأنه أقلّ منك.
وفي السيرة النبوية مشاهدُ بديعة، لا تُعلّمنا ماذا نفعل فقط، بل كيف نفعل، ومن أرقّ هذه المشاهد وأعمقها أثرًا: موقف النبي ﷺ مع الصحابي الجليل سُلَيْك الغِطْفاني رضي الله عنه.
دخل سُلَيْك المسجد يوم الجمعة، والنبي ﷺ يخطب، فجلس دون أن يُصلّي تحية المسجد. لم يُعنّفه النبي ﷺ، ولم يوبّخه، ولم يُشر إلى حاله، بل قال له أمام الناس بكلماتٍ هادئة موجزة:
«يا سُلَيْك، قُمْ فاركع ركعتين، وتجوّز فيهما».
بدا المشهد في ظاهره توجيهًا فقهيًا عابرًا، غير أن باطنه كان تربية اجتماعية بالغة الذكاء.
فقيام سُلَيْك بين الصفوف لِيُصلّي، جعل الأنظار تلتفت إليه تلقائيًا، لا فضولًا ولا شفقة، بل انتباهًا طبيعيًا. وحين انتهت الركعتان، انتقل النبي ﷺ بسلاسةٍ عجيبة إلى الحديث عن الصدقة، فحرّك القلوب قبل الأيدي، فتسابق الصحابة إلى البذل، وكان سُلَيْك من أول المنتفعين… دون أن يُسمّى، ودون أن يُحرَج، ودون أن يُدفع إلى السؤال.
هنا تتجلّى عبقرية التربية النبوية؛
فالنبي ﷺ لم يقل: تصدّقوا على هذا الفقير،
ولم يُعرّف الناس بحاجته،
ولم يجعل فقره بطاقة تعريف له،
بل حفظ له إنسانيته، وأوصل إليه حقه، وربّى المجتمع كله في اللحظة نفسها.
لقد أراد النبي ﷺ أن يعلّم الأمة أن الكرامة مقدَّمة على الإعانة، وأن المحتاج لا يُعرَّف بحاجته، بل يُغاث بصمت، وأن المجتمع السويّ هو الذي يلتقط الإشارات دون أن يُطالَب، ويُبادر دون أن يُحرِج.
ولم يكن هذا المشهد منفصلًا عن التشريع، بل جاء الحكم الفقهي – مشروعية تحية المسجد ولو في أثناء الخطبة مع التخفيف – في سياقٍ يخدم مقصدًا أعلى، هو بناء إنسانٍ متوازن، يعبد الله بفقه، ويتعامل مع الناس برحمة.
إن قصة سُلَيْك رضي الله عنه تُقدّم درسًا بالغ الأهمية لعصرنا؛
عصرٍ تُعلَن فيه المساعدات على الملأ،
وتُنشَر فيه صور الفقراء بدعوى الإحسان،
وتُكسَر فيه القلوب باسم الخير.
إننا في أمسّ الحاجة إلى استعادة هذا المنهج النبوي الرفيع،
منهجٍ يُغيث ولا يفضح،
ويُصلِح دون أن يُشهِّر،
ويُربّي المجتمع على العطاء… لا على الاستعلاء.
هكذا كان سيدنا محمد ﷺ،
مُعلِّمًا، ومُربّيًا، وبانيَ أمة،
يُداوي الجراح قبل أن يراها الناس،
ويصنع الرحمة دون أن يجرح كرامة أحد.