خطبة بعنوان: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ) للدكتـور محمد حسن داود
29 أكتوبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان: (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ)
للدكتـور : محمد حسن داود
إمام وخطيب ومدرس بوزارة الأوقاف
دكتوراة في الفقه المقارن
العناصـــــر :
– من فضائل القرآن الكريم.
– القرآن الكريم منبع هداية وباب رحمة يدعو إلى التيسير.
– القرآن الكريم وحفظ الأفكار والمفاهيم من الخطأ، ومواجهة التشدد.
– خطورة تغيير وتبديل مفاهيم آيات القرآن وتحميلها مالا تحتمل.
– واجبنا نحو القرآن الكريم.
الموضــــــوع:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، نحمده سبحانه على جزيل عطائه، ونشكره على عظيم نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد
فلقد أيد الله (عز وجل) نبيه المصطفى (صلى الله عليه وسلمَ)، بكثير من المعجزات، لكن يظل القرآن الكريم هو المعجزة الخالدة، والنعمة الباقية، والحجة البالغة، يقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): “مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْياً أَوْحَى الله إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ” (متفق عليه)؛ فهو حياة القلوب، وسر السعادة، يبهر ذوي النهى، وأرباب الحجا، يحيي قلوبا ميتة، وينير عقولا مظلمة، ويبصر عيونا عميا، قال تعالى: (الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) (إبراهيم: 1) .
دنت الملائكة لسماعه، كما جاء عَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ (رضي الله عنه)، قَالَ: بَيْنَمَا هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ عِنْدَهُ، إِذْ جَالَتِ الفَرَسُ فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ، فَقَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وَسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأَ فَجَالَتِ الفَرَسُ فَانْصَرَفَ، وَكَانَ ابْنُهُ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا، فَأَشْفَقَ أَنْ تُصِيبَهُ فَلَمَّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، حَتَّى مَا يَرَاهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ: “اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ”، قَالَ فَأَشْفَقْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى، وَكَانَ مِنْهَا قَرِيبًا، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَانْصَرَفْتُ إِلَيْهِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ، فَإِذَا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيهَا أَمْثَالُ المَصَابِيحِ، فَخَرَجَتْ حَتَّى لاَ أَرَاهَا، قَالَ: “وَتَدْرِي مَا ذَاكَ؟”، قَالَ: لاَ، قَالَ: “تِلْكَ المَلاَئِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لَأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إِلَيْهَا، لاَ تَتَوَارَى مِنْهُمْ” (رواه البخاري).
ولما سمعه الجن امتلأت قلوبهم بمحبته وإجلاله وتعظيمه، وأسرعوا لدعوة قومهم إلى اتباعه قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) (الأحقاف: 29).
تحدى الله به الجن والإنس أن يأتوا ولو بسورة من مثله، قال تعالى: ( وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 23).
ولقد كان الصحابة (رضي الله عنهم) يتنافسون في حفظ لفظه، ويتسابقون في فقه معناه، ويجعلونه صاحبهم في أسفارهم، وأنيسهم في وحدتهم، وصديقهم في كل أحوالهم، إذ يُسمع لبيوتهم دويا كدوي النحل من تلاوة القرآن، والقيام به في الليل، وكان النبي (صلى الله عليه وسلمَ) يستمع إلى هذه الأصوات العذبة المنبعثة بين هذه البيوت المباركة وقلبه منشرح بذلك، إذ يقول (صلى الله عليه وسلمَ): “إِنِّي لأَعْرِفُ أَصْوَاتَ رُفْقَةِ الأَشْعَرِيِّينَ بِالْقُرْآنِ حِينَ يَدْخُلُونَ بِاللَّيْلِ، وَأَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ مِنْ أَصْوَاتِهِمْ بِالْقُرْآنِ بِاللَّيْلِ؛ وَإِنْ كُنْتُ لَمْ أَرَ مَنَازِلَهُمْ حِينَ نَزَلُوا بِالنَّهَارِ”.
– فمن تلاه نال بتلاوته الحسنات، ومضاعفة الأجور والرفعة في الدرجات؛ فعن عَبْد اللهِ بْن مَسْعُودٍ (رضي الله عنه) قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ الْم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلاَمٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ” (رواه الترمذي)، وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ، وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ، لَهُ أَجْرَانِ” ويقول (صلى الله عليه وسلمَ): “وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا غَشِيَتْهُمُ السَّكِينَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ”.
– يشفع لأصحابه يوم القيامة، فعن أَبي أمامه الْبَاهِلِيّ (رضي الله عنه) قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَقُولُ: “اقْرَءُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ” (رواه مسلم).
– يرفع درجات أصحابه في الجنة، فعن عبد الله بن عمرو (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما) قال: قال رسولُ الله (صلَّى الله عليه وسلم) “يقالُ لصاحبِ القرآن: اقرَأ وارتَقِ، ورتِّل كما كُنْتَ ترتِّل في الدُنيا، فإن منزِلَكَ عندَ آخرِ آية تقرؤها ” (رواه أبو داود)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ)، أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: “يَجِيءُ صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: الْقُرْآنُ يَا رَبِّ حَلِّهِ فَيُلْبَسُ تَاجَ الْكَرَامَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبِّ زِدْهُ يَا رَبِّ ارْضَ عَنْهُ فَيَرْضَى عَنْهُ، وَيُقَالُ لَهُ اقْرِهِ وَارْقَهْ، وَيَزْدَادُ بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَةً ” (مستدرك الحاكم ).
– وليس الفضل والأجر موقوف عند صاحب القرآن فحسب، بل يمتد الأجر ويشمل الفضل والديه، فقد قال (صَلى الله عليه وسلم): “مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، أُلْبِسَ وَالِدَاهُ تَاجًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ضَوْءُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ فِي بُيُوتِ الدُّنْيَا لَوْ كَانَتْ فِيكُمْ ، فَمَا ظَنُّكُمْ بِالَّذِي عَمِلَ بِهَذَا”.
في جملته وتفصيله توجيه لإصلاح النفوس، وتهذيب السلوك، ودفع الشبهات، هو طوق نجاة، من تدبره تذكر، ومن قال به صدق، ومن نطق به أصاب، ومن تمسك به نجا، ومن اتبعه هُدي إلى صراط مستقيم، قال تعالى: (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (الإسراء:9).
حامل بشارة للمؤمنين، فقد قال تعالى: (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) (الإسراء: ٩)، ويقول سبحانه: (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا) (الكهف: ٢).
جعله الله (عز وجل) منبع هداية، قال تعالى (الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1-2)، وباب رحمة؛ قال تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الإسراء: 82)، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس: 57 – 58)، لا عناء ولا شقاء؛ قال تعالى: (طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى) (طه: 1-3)، وقال سبحانه: (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) (طه: 123) وعَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: “إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَاقْبَلُوا مِنْ مَأْدُبَتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ تَبِعَهُ، لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ، وَلَا يَعْوَجُّ فَيُقَوَّمُ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ مِنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، اتْلُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرُكُمْ عَلَى تِلَاوَتِهِ كُلَّ حَرْفٍ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ وَلَامٌ وَمِيمٌ” (الحاكم).
من تدبر آياته وجد دعوته إلى التيسير ظاهرة جلية، فالإسلام تيسير كله، لا تشدد ولا غلو، لا عنت ولا تكلف ولا حرج؛ قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78)، وقال جل وعلا: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185)، وقال سبحانه: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) (النساء: 28)، وقال عز وجل: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) (البقرة: 286)، ويقول سبحانه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (الأعراف: 42).
وهذا ما أكد عليه سيدنا الحبيب النبي (صلى اللهُ عليه وسلم)، ودعانا إلى التمسك به، إذ يقول: “إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ”(رواه البخاري)، ويقول: “إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ”، ويقول: “إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ”. ويقول: “إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ” (رواه أحمد)، ويقول: “إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ، إِنَّ خَيْرَ دِينِكُمْ أَيْسَرُهُ ” (رواه أحمد)، ويقول: “إِنَّ اللهَ (تَعَالَى) رَضِيَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْيُسْرَ، وَكَرِهَ لَهَا الْعُسْرَ” قَالَهَا ثَلَاثًا (الطبراني، في الكبير).
كذلك الناظر في القرآن الكريم يرى أنه كم دعا بآياته وأحكامه وتوجيهاته إلى حماية الفكر من الزيغ، ونبذ التشدد والانغلاق والتطرف، إذ إن تحقيق ذلك يعد سياجا قويا وحصنا منيعا لحماية المجتمع عامة والشباب خاصة والأسر جميعها من أي فكر متشدد:
– فتراه يدعو الإنسان إلى نبذ الهوى وعدم اتباعه؛ فالهوى يحول بين الشخص وبين الوصول إلى لمعرفة الصحيحة قال تعالى: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) (المؤمنون:71).
– كما تراه وقد نهى عن الغلو في الدين، قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) (البقرة:143) ويقول صَلى الله عليه وسلم: “أيُّها النَّاسُ إيَّاكم والغلوَّ في الدِّينِ فإنَّما أهلكَ من كانَ قبلَكم الغلوُّ في الدِّينِ” (رواه ابن ماجه).
كما تراه وقد نهى عن القول على الله بغير علم؛ قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الأنعام:144).
– كما تراه وقد أمر بتدبر القرآن بعيدا عن الجمود والانغلاق؛ قال تعالى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24)، وقال سبحانه: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ) (ص: 29).
– كما تراه وقد دعانا إلى الحفاظ على أبنائنا من نار التطرف وخيوط أفكاره، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) (التحريم: 6).
وغير ذلك من أساليب القرآن التي جاءت لتحفظ الأفكار من الخطأ، والمفاهيم من الغلط، وتواجه التشدد والتطرف والانغلاق؛ فالتشدد والانغلاق في الفكر لا ينتج إلا عقما في الفهم، وجمودا في العقل، وضَيقا في الافق، يغلق على صاحبه باب التيسير، ويقيد عقله بقيود تجعله لا يرى النصوص إلا جامدة، ولا يرى الدين إلا صلبا مع أنه في معناه ومبناه وجميع جوانبه رحمة كله وتيسير كله.
إن كل عقل يتطاول على نصوص القرآن الكريم أو السنة النبوية المطهرة بتطويعها وتحميلها مالا تحتمله وتغيير معانيها وتزييف المفاهيم لا يثمر وسطية واعتدالا وصلاحا وإصلاحا، وإنما ينتج تطرفا، وتمزقا، وفرقة؛ والله تعالى يقول: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آل عمران: 105)… ينتج إشاعة نوع من الفوضى في المفاهيم الدينية بين الناس، وتشويها لصورة الدين، وتضييقا على الناس، ونزعَ الرفق والتيسير؛ والنبي (صلى الله عليه وسلمَ) يقول: “إنَّ الرِّفْقَ لا يَكونُ في شَيءٍ إلَّا زانَهُ، ولا يُنْزَعُ مِن شَيءٍ إلَّا شانَهُ”… ينتج فسادا وانتشارا للفكر الهدام؛ (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ) (البقرة: ٢٠٥)، (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (المائدة: ٦٤)… ينتج قولا على الله بغير علم ولا هدى، وقد قال تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (هود: 18)، وما أعظم قول الصديق (رضي الله عنه): “أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم”.
لذلك كان من أشد ما خافه النبي (صَلى الله عليه وسلم) على أمته رجل قرأ القرآن وسرى نور القرآن إليه، لكن حماسته وانفعاله وكبره وهواه وفكره الخاطئ أخذوا بيده إلى مفاهيم مغلوطة وأفكار منبوذة، فوقع في الزلل، وسقط في أوحال التشدد والتنطع، والخروج عن مقاصد الشرع، وحمل القرآن ما لا يحتمله من المعاني، ونسب إليه مالا يقصده من المفاهيم، فعن حذيفة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم) : “إنَّ ما أَتَخوَّفُ عليكم رجلٌ قَرَأ القرآنَ حتى إذا رُئِيَتْ بَهْجتُه عليه، وكان رِدْئًا للإِسلام، غَيَّرَه إلى ما شاء الله، فانْسَلَخَ مِنْه ونَبَذَه وراءَ ظَهْرِه، وسَعَى على جاره بالسَّيف، ورمَاه بالشِّرك”، قال: قلتُ: يا نبيَّ الله، أيُّهما أوْلى بالشِّرك، المَرْمِي أم الرَّامي؟ قال: “بل الرَّامي”.
وإنه لمن منن الله (عز وجل) أنه كما قال النبي (صلى الله عليه وسلمَ) في الحديث الذي أخرجه الإمام البيهقي، في (السنن الكبرى) عن عبد الرحمن الْعُذْرِيِّ، قال: قال رسول الله (صَلى الله عليه وسلم): “يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ”، وهذا الحديث الشريف يتضمن إشارة إلى أن الله (تعالى) يقيض دائما وأبدا علماء عدولا لصون شريعته من عبث المتلاعبين بها، أو المتقولين فيها بالهوى والتشهي، وبفضل الله (عز وجل) كان وما زال الأزهر الشريف سدا منيعا وحصنا حصينا وحماية من ظلام سراب الأفكار الهدامة، ونورا يمحو ظلام الأفكار المتطرفة.
إن للقرآن الكريم علينا واجبات:
– منها تلاوته: قال تعالى:(إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ) (فاطر:29) وهذه التلاوة ينبغي أن يصحبها التدبر وحضور القلب، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ) (ص: 29)، روي أن عمر (رضي الله عنه) مر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ (والطور) حتى بلغ (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ) قال قسم – ورب الكعبة – حق. فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث مليا، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهرا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه، رضي الله عنه.
– ومنها تعلمه وتعليمه: فعن عُثْمَان بن عفان (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) عَنْ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: ” خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ” (البخاري).
– ومن واجبنا نحو القرآن أن نعمل به، فهذا صلب الأمر، فقد قال (صَلى الله عليه وسلم): “يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ، وَآلُ عِمْرَانَ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شَرْقٌ، أَوْ كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، تُحَاجَّانِ عَنْ صَاحِبِهِمَا” (رواه مسلم). ولما نزل قوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ) (آل عمران: 92)، قام سيدنا أبو طلحة الى أجمل حديقة عنده وأحبّها اليه وتصدق بها؛ فعَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ (رَضِي اللَّه عَنْه) يَقُولُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ وَكَانَ أَحَبُّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ): “بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ”، فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ.
– كذلك أن نحل حلاله ونحرم حرامه قال تعالى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) (البقرة: 121). عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا)، فِي قَوْلِ اللَّهِ (عَزَّ وَجَلَّ): (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) (سورة البقرة آية 121) ، قَالَ: “يُحِلُّونَ حَلالَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَلا يُحَرِّفُونَهُ عَنْ مَوَاضِعِهِ “.
فما أحوجنا إلى أن نتمسك بقيم ديننا وهدى نبينا فنحقق التيسير في أمور ديننا، وننبذ الغلو والتشدد من أخلاقنا وسلوكنا، فالله (عز وجل) قال في حق حبيبنا: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الانبياء107)، ويقول النبي (صَلى الله عليه وسلم): “إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّما أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ”.
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب همومنا وغمومنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار.
واحفظ اللهم مصر من كل مكروه وسوء، واجعلها اللهم أمنا أمانا سخاء رخاء يا رب العالمين