الزواج أقدس الروابط الإنسانية

بقلم أ.د : مها محمد عبد القادر
أستاذ أصول التربية 
كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

 

يُعد الزواج من أقدم وأقدس الروابط الإنسانية، فهو ميثاق غليظ كما وصفه القرآن الكريم، لما ينطوي عليه من مسؤوليات وجدانية وأخلاقية واجتماعية تجاه الذات والآخر والمجتمع، فهو منظومة قيمية راقية تقوم على التكامل والتعاون، وتعبر عن أسمى صور النضج الإنساني في تحمل المسؤولية وبناء الاستقرار، وقد تعرض مفهوم الزواج لتشويه بفعل التحولات الثقافية والاجتماعية المتسارعة، ونتيجة انتشار النزعات الفردية والمادية التي جعلت المصلحة الذاتية تتقدم على روح المشاركة والعطاء والمسؤولية، فضعف الوعي بالقيمة الروحية للعلاقة الزوجية أدى إلى اختلال معايير الاختيار، واضطراب مفهوم النجاح الأسري، وتحويل الزواج في بعض الأذهان إلى صفقةٍ نفعية مؤقتة بدلًا من كونه ميثاقًا قائمًا على الرحمة والمودة والمسؤولية.

ويمثل الزواج في التصور الإسلامي ميثاقًا غليظًا كما ورد في قوله تعالى ﴿وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا﴾ “النساء: 21″، وهذا يوضح ما ينطوي عليه الزواج من التزام أخلاقي وروحي، يتجاوز حدود التوافق بين طرفين إلى عهد أمام الله والمجتمع، يقوم على المسؤولية والبناء والعطاء المستمر، فالزواج في الإسلام علاقة مقدسة يراد بها السكينة والتكامل الإنساني، وتُبنى على المودة والرحمة، وتصحيح المفهوم المعاصر للزواج، بإعادة النظر في الخطاب السائد الذي أضحي في كثير من الأحيان يختزل هذه العلاقة السامية في المظاهر المادية الفستان، والشبكة، والقاعة، والمهر، والسيارة، والمنزل، والمؤخر… إلى غير ذلك من الرموز الشكلية.

ويُعد الزواج نواة البناء المجتمعي والتنمية الإنسانية، فاستقرار الأسرة يمتد أثره إلى استقرار المجتمع بأسره، فالأسرة الواعية المتماسكة تخرج أجيالًا قادرة على الإبداع والعطاء، وتمتلك منظومة قيمية راسخة تشكل أساس التنمية المستدامة، وفي ضوء رؤية مصر 2030 التي تجعل من بناء الإنسان المصري محورًا رئيسيًا لمشروعاتها الوطنية، يصبح تصحيح المفاهيم الأسرية ركيزة استراتيجية، لأن الإنسان المتوازن نفسيًا وأسريًا هو الأقدر على الإنتاج، والمشاركة المجتمعية، والمواطنة الفاعلة، فالزواج قضية وعي ووجود ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن الاجتماعي والوطني، ويشكل إصلاح المفاهيم حوله أحد أهم عوامل الصمود أمام التحديات الاقتصادية والثقافية والفكرية التي تواجه المجتمع المعاصر.

ويدعونا هذا إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة حول الزواج، وإعادة بنائه في الوعي الجمعي بوصفه علاقةً تقوم على الرحمة والتفاهم والتوازن بين العقل والعاطفة، فإعادة إحياء مفهوم الزواج كـميثاق، يمثل ركيزة أساسية لاستقرار المجتمع، لأن الأسرة هي البذرة الأولى لبناء القيم والسلوك والوجدان، ومنها تستمد ملامح التماسك الاجتماعي، كما يقاس نجاح الحياة الزوجية بمدى تحقق السكينة النفسية، والاحترام المتبادل، والتناغم الإنساني بين الزوجين، فحين تبنى العلاقة الزوجية على الفهم والتقدير والمسؤولية المشتركة، تثمر أسرة قادرة على بناء إنسان سوي ومجتمع متماسك ينهض على أسس المحبة والعدل والمودة.

ويمثل الاختيار أولى الخطوات التي تحدد مسار الزواج واستقراره، وهي أكثر المراحل التي تتعرض للتسرع أو السطحية بفعل تأثره بعدد من المؤثرات واختلاط المعايير، فالتوازن بين العقل والعاطفة في اختيار شريك الحياة يمثل أساس البناء النفسي والوجداني للأسرة، حيث يضع العقل المعايير الواقعية للاختيار من تكافؤ قيمي وفكري ونضج نفسي وقدرة على تحمل المسؤولية ورؤية مشتركة للحياة، بينما تمنح العاطفة العلاقة بعدها الإنساني ودفأها الروحي، لتتحول المشاركة من مجرد اتفاق إلى تواصل حي يغذيه الود والرحمة.

وتعد إحدى إشكاليات الواقع المعاصر أن كثيرين يجعلون العاطفة وحدها مرجعًا حاكمًا، فتغيب عن الاختيار المعايير الموضوعية، ويختزل الزواج في الانبهار اللحظي أو الانجذاب الشكلي، لتتكشف لاحقًا الفجوات الفكرية والقيمية التي تهدد الاستمرار، وفي المقابل هناك من يجعل العقل وحده سيد القرار، فيتعامل مع الزواج كمعادلة حسابية باردة تخلو من الوجدان، فتغيب عنها حرارة العاطفة وجمال التراحم؛ لذا فالزواج الناجح هو الذي يقوم على معادلة دقيقة، فالعقل يختار بمعايير النضج والتكافؤ، وقلب يضفي على هذا الاختيار حرارة الحياة ومعنى الإنسانية والرحمة، ويظلل كل هذا وعي قيمي يضبط العلاقة بين الاثنين، فيوجه كلا من العقل والعاطفة في الاتجاه الصحيح، فـالمحب الحقيقي هو من يحب بعقل راشد، والعاقل بحق هو من يحكم عاطفة ناضجة واعية، ويدرك أن الزواج شراكة ممتدة تبنى على الوعي، والمسؤولية، والرحمة.

ونستطيع القول أن المفاهيم الخاطئة حول الزواج تعد من أبرز أسباب الاضطراب الأسري في المجتمعات، حيث غابت الرؤية القيمية وحلت محلها تصورات سطحية متأثرة بثقافة المظاهر والاستهلاك، ومن أخطر هذه المفاهيم النظر إلى الزواج باعتباره وسيلة للوجاهة أو المكانة الاجتماعية، فيختار الشريك بناءً على المال أو النسب أو الشكل، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في تكوين علاقات افتراضية تقوم على الصورة، والانبهار بالمظهر بدون تعارف الحقيقي، وهذا أنتج ارتباطات هشة تفتقر إلى التفاهم.

ومن الأخطاء الشائعة كذلك الاعتقاد بأن الزواج نهاية الطريق لا بدايته، فيتوقف الطرفان عن السعي للتطوير الذاتي والنضج العاطفي بعد الارتباط، وكأن الزواج يمنح الاستقرار تلقائيًا، بينما الحقيقة أنه رحلة وعي ونمو مشترك تتطلب جهدًا مستمرًا للحفاظ على المودة والرحمة، وتفرز هذه المفاهيم المغلوطة آثارًا ملموسة في الواقع؛ من ارتفاع نسب الطلاق وتراجع الثقة بين الأزواج، إلى تفكك القيم الأسرية وشعور كثيرين بالاغتراب داخل بيوتهم؛ لذا فإن تصحيح المفهوم ضرورة تربوية وثقافية لحماية النسيج الاجتماعي، ويبدأ هذا التصحيح من التربية الأسرية والتعليم والإعلام والخطاب الديني، التي يجب أن تتكامل أدوارها في إعادة بناء الوعي الجمعي بالزواج كـمسؤولية إنسانية وأخلاقية.

وتتجلي هنا أهمية المرونة الذهنية كشرط في نجاح العلاقة الزوجية؛ فهي تمكن الزوجين من التكيف الواعي مع التغيرات، وتعزز قدرتهما على الفهم المتبادل، وحل الخلافات بالحوار، فالعقل المرن هو الذي يدرك أن الحب وحده لا يكفي، وأن التفاهم والتقدير والتنازل الواعي هي أعمدة الحياة الزوجية الراشدة، كما أن المرونة الذهنية تعلم الطرفين أن الاختلاف لا يعني الخلاف، وأن الصبر والحوار هما طريقا النضج الإنساني والعاطفي.

وتمثل المرونة الذهنية المدخل الأهم لفهم الزواج باعتباره علاقة إنسانية متجددة تقوم على الحوار والتفاهم، وتجنب العناد و التصلب في المواقف، فإن إعادة الوعي بالزواج كميثاق غليظ يتحقق من خلال عقل مرن ناضج يمتلك القدرة على تجاوز الصور النمطية والمفاهيم السطحية التي سادت الخطاب الاجتماعي المعاصر، فالعقل المرن هو الذي يدرك أن نجاح الزواج يقوم على التوازن الواعي ويتعامل مع الخلافات بوصفها فرصًا للنضج والنقاش البناء، ومن ثم يصبح تصحيح المفاهيم حول الزواج جزءًا من مشروع أشمل لبناء وعي اجتماعي جمعي راق، يستبدل منطق المظاهر بمنطق القيم، ويستبدل ثقافة التفاخر بثقافة التعاون، فيثمر أسرة قائمة على الرحمة، ومجتمعًا يقوم على التفاهم، وإنسانًا يوازن بين الحب والمسؤولية، ومن ثم فإن إحياء الوعي بالزواج كمنظومة قيم ومسؤولية يرسخ أساس البنية الإنسانية التي تنهض عليها الأمم، ويؤسس لمجتمع مستقر متوازن، يؤمن بأن الوعي هو الطريق إلى النهضة.