بحث بعنوان ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) للشيخ رضا الصعيدى


بحث بعنوان ( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )

للشيخ : رضا الصعيدى

 

ما معنى قوله تعالى : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؟
وما ثمراتها ؟
كيف يكون أدب الاختلاف مع ذكر نماذج من حياة الرسول والسلف الصالح ؟ وما الواجب علينا ؟

بعد حمد الله والثناء عليه …. أما بعد  :

اننا نعيش في واقع يموج بتقلبات المشاعر وتضارب النوايا، قد يصبح الثبات أمام الإساءة تحديا صعبا. …لكن وسط هذه الحياة التي تتنازعها التقلبات، يظل هناك نور ينساب من قلب الحكمة، يغرس فينا الأمل بأن نعكس جمال القيم عبر أفعال تعبر عما بداخلنا من صدق ونبل.

هؤلاء الذين يواجهون العواصف برزانة ويدفعون بالتي هي أحسن، هم وحدهم الذين يتركون أثرا خالدا في النفوس، ويرسمون جسورا من السلام فوق أمواج الغضب.

يقول تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت: 34}، فقوله تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) أي: لا تستويان في الجزاء وحسن العاقبة والحسنة: هي ما ترضي الله ويتقبلها، والسيئة: هي ما يكرهها الله ويعاقب عليها. (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: ادفع ورد السيئة حيث اعترضتك بالخصلة التي هي أحسن منها، وهي الحسنة، كمقابلة الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإساءة بالعفو. (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، الحميم الصديق، أي إذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب في محبته.

قال البغوي : قال مقاتل بن حيان : نزلت في أبي سفيان بن حرب ، وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي – صلى الله عليه وسلم – ثم أسلم فصار وليا بالإسلام حميما بالقرابة .

الاختلاف سنة ربانية :ـ

إن الاختلاف سنة ربانية لا مخلص منها، فالناس يختلفون في ألوانهم، وأشكالهم وقبائلهم، وميولهم وعقولهم، وفي كل شيء، وقد قال الله تعالى : {ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين(22)}[الروم].. قال العلامة ابن القيم عندما قال في أعلام الموقعين : “وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضروري لا بد منه لتفاوت أغراضهم وأفهامهم وقوى إدراكهم ولكن المذموم بغي بغضهم على بغض وعدوانه”.

اختلافُ الأمزجة يظهر معادن الناس :

 وهذهِ من غرائب خِلقة بني آدم!.. ففي عالم الأبدان هناك اختلاف من حيث: الألوان، والألسن، والأشكال.. وكذلك هناك اختلاف في الطبائع والأمزجة من حيث: الحماس والفتور، الجرأة والخوف، الغضب والهدوء…

جاء في زاد الخطباء أن الاختلاف نوعان:

اختلافُ تنوُّعٍ: وهو الذي يتمثل في الأقوال المتعددة التي لا تضاد ولا تناقض بينها في المجمل، وإنما تصب في معِين واحد، وهذا ما يعرف ب “الخلاف اللفظي”، وهو غالب نتاج الشريعة الغراء، وما تمخض عن أقوال الفقهاء والعلماء على اختلاف مشاربهم.

وهذا الاختلاف ليس مذمومًا إذا روعي فيه حدود الأدب والأخلاق، فهو نتيجة الاجتهاد، وتفاوت الأفهام في مسائل متفاوتة بل إن صاحبه مأجور إذا كان من أهل العلم؛ فعَنْ سيدنا  عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:«إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ، فَلَهُ أَجْرٌ» [متفق عليه].

هذا الاختلاف يقود إلى النجاح، وتُثمر عنه الإنجازات، ولا يفسد للود قضية، وتُحفظ فيه الحقوق، وتُصان فيه الأعراض؛ ولهذا صنف رجل كتابًا في “الاختلاف”، فقال الإمام أحمد بن حنبل: لا تسمِّه “الاختلاف”، ولكن سمِّه “السعة”.

اختلافُ تضادٍ: وهو الأقوال والآراء المتضادة أو المتناقضة التي لا يمكن الجمع بينها وبين قواعد الشريعة ومقاصدها، كمن ينكر أمرًا متفقًا عليه، أو عبادة مجمعًا عليها، فهذا النوع لا يمكن أن يجري فيه الخلاف؛ لأن الشرع فيه محكم، قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: ٨٢]، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: ٤].

وصايا في أدب الحوار للوصول الى أدب الاختلاف :

– عدم رفع الصوت على الطرف الآخر .

– التركيز على نقاط الالتقاء، ومواضع الاتفاق بينك وبين من تحاوره.

– التحرر من التعصب للأشخاص والمذاهب.

– الانتصار للحق ولو كان مع الآخر.

– الوعي بطبيعة الاختلاف ، والخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية.

– إحسان الظن بالآخرين ، وعدم التفتيش في النيات .

– ترك الجدال  واللدد في الخصومة.

ثمرات أدب الاختلاف والدفع بالتي هي أحسن :

كسب القلوب :

قال الله تعالى : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} ، أي: إنك إن فعلت ذلك فقابلت الإساءة بالإحسان، صار العدو كالصديق، وما أحسن هذه النتيجة أن يتحول الناس الأعداء أو الحساد إلى أصدقاء، أو كالأقارب يستعان بهم عند المحنة، بسبب الشفقة والإحسان.

وفي الأثر : ( تصافحوا يذهب الغل ).

العصمة من الزلل :

قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ‌بِالصَّبْرِ ‌عِنْدَ ‌الْغَضَبِ، وَالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمَهُمُ اللَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَخَضَعَ لَهُمْ عَدُوُّهُمْ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. اهـ.

الحظ العظيم :

وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.

طاعة الله :

ان مما يُعين على مقابلة السيئة بالحسنة تذكُّر أنَّ هذا الفِعْل عبادة وقُربة، بل هو من أحبِّ القُرَب إلى الله – تبارك وتعالى – فهو شاقٌّ على أغلب النفوس، فلا بُدَّ من الصبر عليه، فهذه العداوة ستتحوَّل بعد حين إلى مَحبَّة وصفاء…قال عمر -رضي الله عنه-: ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه.

قال الطبري : قوله تعالى : ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة ) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته.

الاقتداء بالرسول :

السيدة عائشة – رضى الله عنها – قالت: «إن النبى مكتوب فى الإنجيل: لا فظ ولا غليظ ولا صخاب فى الأسواق، ولا يجزى بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح».

وسنرى في عنصر مواقف من حياة الرسول والسلف الصالح ما يثلج الصدر ، ويريح القلب .

الأجر العظيم :

قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)، ففي الحديث أن الرفق ليس مرة أو مرتين، وإنما في كل أمرك كن رفيقاً، ومع كل شيء.

وأيضاً في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف)، وفي رواية : (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ويعطي الله عز وجل على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه).

جاء في الحديث: “من كظم غيظًا وهو قادر على أن يُنفذه، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يُخيره من أي الحور العين شاء”؛ (صحيح ابن ماجه مرفوعًا)، وهذه أدنى صور الدفع بالتي هي أحسن.

اثقل ما يوضع في الميزان :

ومن ثم فما من شيء أثقل في ميزان العبد من حسن أخلاقه ورقى سلوكه، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ r  يَقُولُ: ” مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ” صحيح الترغيب والترهيب..

أحب عباد الله الى الله:

جاء وفد الى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله من أحب عباد الله الى الله؟ قال:” أحسنهم خلقا” رواه الهيثني في مجمع الزوائد 8\22.

حب ورفقة النبي – صلى الله عليه وسلم – في الآخرة:

 فعَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:” إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ وَأَبْعَدَكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ وَالْمُتَفَيْهِقُونَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: قَدْ عَلِمْنَا الثَّرْثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ فَمَا الْمُتَفَيْهِقُونَ؟ قَالَ: الْمُتَكَبِّرُونَ” [ الترمذي وحسنه ].

طريقٌ إلى الجنة:

 فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ:” تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ” وَسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ:” الْفَمُ وَالْفَرْجُ” [ أحمد والترمذي وصححه ]،

وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ”[ أبو داود والبيهقي والطبراني والترمذي وحسنه ]….و قال صلى الله عليه وسلم ” إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ” – شعب الإيمان…

وقالَ اللهُ تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) ………الايات الى  (74)} [الفرقان: 63-74].

الحلم وقاية من النار:

 فكما أن حسن الخلق يوجب الجنة فكذلك يحرم صاحبه على النار. فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟! عَلَى كُلِّ قَرِيبٍ هَيِّنٍ سَهْلٍ” [ الترمذي وحسنه ].

حسن الخلق يرفع الدرجات في الآخرة:

 فحسن الخلق يرفع العبد منزلة عند الله حتى يبلغ درجة الصائم القائم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:”إِنَّ الْعَبْدَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” [أحمد وأبودواد والطبراني والحاكم وصححه].

ادراك درجة الصائم القائم :

ففي الحديث  :” إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ” رواه ابو داود .

تميز الصالحين بأدب الاختلاف والاعراض عن أخلاق الجاهلين :

قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:١٩٩]… وقوله تبارك وتعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ)- (القصص:55).

وقوله تبارك وتعالى: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً) – (الفرقان: من الآية63).

ونَهَى عن المجادلة وكَثرة المخاصَمة، وإنْ كان الشخص على حَقٍّ؛ لأنَّ المجادلة في الغالب تؤثِّر في النفوس، وتجلبُ النُّفْرة بين المتجادِلين؛ فعن أبي أُمَامة – رَضِي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في رَبَضِ الجنة لِمَن ترَكَ المِراء وإنْ كان مُحقًّا، وببيتٍ في وسط الجنة لِمَن ترَك الكَذِب وإنْ كان مَازِحًا، وببيتٍ في أعلى الجنة لِمَن حَسن خُلُقه»؛ (رواه أبو داود (4800) بإسناد حَسنٍ).

اجبار الأخرين على معاملتك بحسن المعاملة حتى وان خالف ظاهرهم باطنهم :

وضروري أن نشير إلى أنّ قوله تعالى: (كأنّه ولي حميم) حتى وإن لم تكن تعني أنّ الشخص لم يكن كذلك حقاً، إلا أنّ ظاهره سيكون كذلك على الأقل.

جاء في التحرير والتنوير : والتشبيه في قوله : { كأنَّه وليُّ حَميمٌ } ، تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة ، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة … فقد زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوماً للنبيء صلى الله عليه وسلم لأنتَ أحب إليّ من نفسي التي بين جنَبيَّ ، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خِباءٍ أحبُّ إليّ من أن يذلُّوا مِن أهل خبائك واليومَ ما أهلُ خِباء أحبُّ إليَّ من أن يعِزُّوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم وأيضاً ، أي وستزيدِين حباً .

تحذير هام :

إياكَ وقولَ من يقولُ: إنَّ الإحسانَ إلى من أساءَ ضَعفٌ وذِلٌّ، لا واللهِ، بل هو شجاعةٌ وعِزٌّ، كما جاءَ في الحديثِ: “وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا”، وإذا كُنَّا في هذه الخُطبةِ ندعو إلى العفوِّ والإحسانِ عمَّنْ أساءَ إلينا، فاسمعْ معي بقلبِك لهذا الحديثِ، اسمعْ إلى هذا المِثالِ الأعظمِ، كيفَ يدفعُ اللهُ -تعالى- بالتي هي أحسنُ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رَضيَ اللهُ عنه- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: “مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ؛ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ، ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ”، فأيُّ مِثالٍ نحتاجُ بعدَ ذلكَ؟

القرآن الكريم يقول: إيّاكم والسقوط في مهاوي هذه الوساوس، ولا تلجأوا إلى القوّة إلاّ في موارد معدودة، وعندما يواجهكم أمثال هذا الكلام فاستعينوا بالله واعتمدوا عليه لأنّه يسمع الكلام ويعلم النيات.

مواقف من حياة الرسول والصالحين ، وتطبيقات عملية في أدب الاختلاف :

ان كتب السير والتاريخ تذكر أن يهوديا أراد أن يتحقق من هذا الخلق الذى نُعت به رسول الله، فيما عندهم من الكتب، كما يحدثنا ابن سعد عن الزهرى قال: إن يهودياً قال: ما كان من شىء من نعت رسول الله فى التوراة إلا رأيته إلا الحِلْم، وإنى أسلفته ثلاثين ديناراً فى تمرٍ إلى أجل معلوم، فتركته حتى إذا بقى من الأجل يوم أتيته، فقلت: يا محمد، أقضنى حقى، فإنكم معاشر بنى عبدالمطلب مُطُلٌ فغضب عمر بن الخطاب وهمَّ أن يضربه، فنهاه رسول الله وقال له: «غفر الله لك يا أبا حفص، نحن كنا إلى غير هذا منك أحوج؛ إلى أن تكون أمرتنى بقضاء ما علىَّ، وهو إلى أن تكون أعنته فى قضاء حقه أحوج»، قال اليهودى: فلم يزده جهلى إلا حلماً، فلما قبض اليهودى تمره، قال: «أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإنه والله ما حملنى على ما رأتنى صنعت يا عمر، إلا أنى قد كنت رأيت فى رسول الله صفته فى التوراة كلها إلا الحلم، فاختبرت حلمه اليوم، فوجدته على ما وصف فى التوراة».

وﺭُﻭﻱ ﺃﻥ ﺃﻋﺮﺍﺑﻴﺎً ﻗﺎﻝ ﻟﺴﻴﺪﻧﺎ ﻋلي -رضي الله عنه : ﻋﺪِّﺩ ﻟﻨﺎ ﺃﺧﻼﻕ ﺭﺳﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ صلى الله عليه وسلم !! ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ رضي الله عنه : ﻫﻞ ﺗﻌﺮﻑ ﺍﻟﻌﺪّ ؟ ﻗﺎﻝ : ﻧﻌﻢ ! ﻓﻘﺎﻝ علي رضي الله عنه: ﻋﺪ ﻟﻲ ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ! ﻓﻘﺎﻝ ﺍﻷﻋﺮﺍﺑﻲ : ﻣﺘﺎﻉ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻻ ﻳُﻌﺪُ ! ﻓﻘﺎﻝ ﺳﻴﺪﻧﺎ ﻋﻠﻲ رضي الله عنه: ﻋﺠﺰﺕ ﻋﻦ ﻋﺪ ﺍﻟﻘﻠﻴﻞ ! ﺇﺫ ﻳﻘﻮﻝ ﺍﻟﻠﻪ تعالى : { ﻗُﻞْ ﻣَﺘَﺎﻉُ ﺍﻟﺪُّﻧْﻴَﺎ ﻗَﻠِﻴﻞٌ }(النساء: 77) ﻭﻃﻠﺒﺖَ مني ﻋﺪ ﺍﻟﻌﻈﻴﻢ ، حيث ﻳﻘﻮﻝ تعالى : { ﻭَﺇِﻧَّﻚَ ﻟَﻌَﻠَﻰ ﺧُﻠُﻖٍ ﻋَﻈِﻴﻢٍ }(القلم: 4 ) !!!!نعم ؛ كان صلى الله عليه وسلم جملة من الأخلاق والكرم والزهد والتواضع والحلم ،ولما سئلت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها عن أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم من سعيد بن هشام بن عامر حين قدم المدينة ، قَالَت له : أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ ؟ قُال : بَلَى ،قَالَت : فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ كَانَ القُرآنَ” . يقول ابن كثير في تفسيره : ومعنى هذا أنه ، عليه السلام ، صار امتثال القرآن أمرا ونهيا سجية له ، وخلقا تطبعه ، وترك طبعه الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه . هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء ، والكرم والشجاعة ، والصفح ، والحلم ، وكل خلق جميل . كما ثبت في الصحيحين عن أنس قال : خدمت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – عشر سنين فما قال لي : ” أف ” قط ، ولا قال لشيء فعلته : لم فعلته ؟ ولا لشيء لم أفعله : ألا فعلته ؟ وكان – صلى الله عليه وسلم – أحسن الناس خلقا ..

بماذا أصفك وكـــــــــل  **     الوصف في حقك قليــــــــــــــل

بالصدق أم بالأمانــــــــــة  **  أم بكونك جـميــــــــــــــــــــل

بالكرم أم بالخلق الرفـــيــع ** أم بالنسب الأصـيـــــــــــــــل

أم أصفك بالحبيـــــــــب أم **  بالمصطفى أم بالخلــيــــــــل

أم أصف شوق المحبين لرؤيـاك **   وكيف الدموع لذكراك تسيــل

تعددت صفاتك يا سيدي فـلا ** وســـيلة لعدها ولا ســـبيــل

قد عــدت لدرب الله تائبا فعسى **    أن يكون حبي لك هو الدليل

رباه قد ملأ قلبي بحبك وحـب  **     نبيك  فـــهل تقبل قلبي الذليـل
فاق النبيين في خَلقٍ وفي خُلـُقٍ  ***  ولم يدانوه في علمٍ ولا كـــــــــــرمِ
وكلهم من رسول الله ملتمــــسٌ  ***   غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ

وروي أن رجلا شتم قنبرا مولى علي بن أبي طالب فناداه علي : يا قنبر ! دع شاتمك ، ترضي الرحمن وتسخط الشيطان ، وتعاقب شاتمك ، فما عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه ، وهكذا كانَ أئمةُ المُسلمينَ، قَالَ صَالِح ُبنُ الإمامِ أحمدِ بنِ حنبلٍ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يَوْمًا فَقُلْتُ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إلَى فَضْلٍ الأَنْمَاطِيِّ، فَقَالَ لَهُ: اجْعَلْنِي فِي حِلٍّ إذَا لَمْ أَقُمْ بِنُصْرَتِكَ، فَقَالَ فَضْلٌ: لا جَعَلْتُ أَحَدًا فِي حِلٍّ، فَتَبَسَّمَ أَبِي وَسَكَتَ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ قَالَ لِي: مَرَرْتُ بِهَذِهِ الآيَةِ: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى:40]، فَنَظَرْتُ فِي تَفْسِيرِهَا فَإِذَا هُوَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنِي الْمُبَارَكُ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْحَسَنَ يَقُولُ: “إذَا جَثَتْ الأُمَمُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنُودُوا: لِيَقُمْ مَنْ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَلا يَقُومُ إلاَّ مَنْ عَفَا فِي الدُّنْيَا، قَالَ أَبِي: فَجَعَلْتُ الْمَيِّتَ –أيْ: الخليفةَ- فِي حِلٍّ مِنْ ضَرْبِهِ إيَّايَ، ثُمَّ جَعَلَ يَقُولُ: وَمَا عَلَى رَجُلٍ أَنْ لا يُعَذِّبَ اللَّهُ -تعالى- بِسَبَبِهِ أَحَدًا”.

قالَ ابنُ القيمِ -رحمَه اللهُ-: “جئتُ يوماً إلى شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميةَ مُبَشِّرًا له بِمَوتِ أكبرِ أعدائه، وأشدِّهم عداوةً وأذىً له، فَنَهَرني وتَنَكَّرَ لي واسترجع، ثم قامَ مِن فَورِه إلى بيتِ أهلِه فَعَزَّاهُم، وقالَ: إني لكم مكانَه، ولا يكونُ لكم أمْرٌ تحتاجونَ فيه إلى مساعدةٍ إلاَّ وسَاعَدتُكم فيه، ونحو هذا مِن الكلامِ، فَسُرُّوا به، ودَعوا له، وعَظّموا هذه الحالَ منه، -فَرَحِمَه اللهُ ورضيَ عنه-“..وقد ورد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قوله: ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك.

 وأنشدوا :

وللكف عن شتم اللئيم تكرما    أضر له من شتمه حين يشتم

وقال آخر :

وما شيء أحب إلى سفيه إذا سب الكريم من الجواب

متاركة السفيه بلا جواب أشد على السفيه من السباب

وَإِنْ بُلِيتَ بِشَخْصٍ لاَ خَلاَقَ لَهُ ♦♦♦ فَكُنْ كَأَنَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَلَمْ يَقُلِ

  في بعض المواقف تحتاجُ إلى شيءٍ من التغابي، فكأنَّك لم تفهمْ ما قال، ولم تُدرِكْ مَغْزَى ما فَعَل:

 لَيْسَ الْغَبِيُّ بِسَيِّدٍ فِي قَوْمِهِ ♦♦♦ لَكِنَّ سَيِّدَ قَوْمِهِ الْمُتَغَابِي

وقال محمود الوراق :

سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه لدي الجرائم

فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم

فأما الذي فوقي فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابته عرضي وإن لام لائم

وأما الذي مثلي فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكم

ازرع جميلا ولو في غير موضعه……….فلن يضيع جميل أينما صنع
إن الجميـــــل إذا طال الزمان به……….فليس يحصـده إلا الذي زرع

ويذكر أن سيدنا علياً زين العابدين رحمه الله لقيه سفيه عند الحرم بذيء اللسان، فقال له: يا فاجر، فقال له زين العابدين: جزاك الله خيراً، فقال له: يا منافق! قال: بارك الله فيك، فقال له: يا فاسق، قال: هداني الله وإياك، فأراد الرجل أن يذهب، فقال زين العابدين: لقد أخبرتني عن ثلاث صفات سيئة فقط، وفيَّ صفات كثيرة أكثر مما ذكرت، أتريد أن تعرفها؟!

فنظر الرجل إليه وقال: أشهد أن هذا ابن رسول الله..

وجاء في الكتب السابقة أن الله تعالى قال لموسى : ان اردت ان يستغفر  لك كل شيئ فاصبر على خلقي وجفائهم كما صبرت على من اكل خيري وعبد غيري ..

شتم رجل أحد الصالحين.. فالتفت الصالح إلى الرجل وقال له : هي صحيفتك فاملأها بما شئت..

فى يوم من الأيام مر يهودي معه كلب على إبراهيم بن ادهم رحمه الله فقال له: أيهما أطهر لحيتك أم ذيل كلبي ؟ فرد عليه بهدوء: أن كانت لحيتي في الجنة فهي أطهر من ذيل كلبك ، وإن كانت في النار فذيل كلبك اطهر منها. فما ملك اليهودي نفسه ألا أن قال :اشهد أن لا اله إلا الله و أن محمداً رسول الله ما هذا إلا خلق الأنبياء.

وقال سيدنا يحيى بن معاذ الرازي : “اصحبوا الناس بالفضل لا بالعدل فمع العدل الاستقصاء، ومع الفضل الاستبقاء، وإني لأرجو أن يحاسب اللَّه تعالى عباده بالفضل لا بالعدل، وقد أمرهم أن يصاحب بعضهم بعضًا بالفضل، وقد عظَّم الله تعالى أمر الإحسان والإفضال فقال: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}. [الذريعة إلى مكارم الشريعة].

وعن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “لَا تَظُنَّ كَلِمَةً خَرَجَتْ مِنْ أَخِيكَ شَرًّا وَأَنْتَ تَجِدَ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا”. [روضة العقلاء ونزهة الفضلاء].

الواجب علينا :

التحلي بالصبر :

{ {وَمَا يُلَقَّاهَا} } أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة { {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} } نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟”.

فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه مدّة طويلة حتى يستطيع أن يسيطر على غضبه، يجب أن تكون روحه قوية في ظلّ الإيمان والتقوى حتى لا يستطيع أن يتأثر بسرعة وبسهولة بإيذاء الأعداء، ولا يطغى عنده حب الإنتقام، فتلزمه الروح الواسعة وانشراح الصدر بالمقدار الكافي، حتى يصل الإنسان إلى هذه المرحلة من الكمال بحيث يقابل السيئات بالإحسان.

حسن الاختيار :

قوله : (بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) بقيت عامة مجملة من غير تحديد ولا تقييد، وبقي تقدير ذلك بحسب الحالات والمجالات، وبناء على ما وضعه الشرع وأرشد إليه من آداب في التعامل والتخاطب.

وإنما بقيت هذه الطريقة الموصوفة بأنها (الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) عامة لكي نختار “الأحسن” لكل حالة بحسب ما يليق بها، وبحسب ما نستطيعه وتبلغه أخلاقنا وإمكاناتنا، فالمهم هو أن ندفع ونتعامل ونعالج أمورنا (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

مر المسيح عليه السلام بقوم من اليهود، فقالوا له شرًّا، فقال لهم خيرًا، فقيل له: إنهم يقولون شرًّا وأنت تقول خيرًا؟ فقال: “كلٌّ يُنفق مما عنده”[إحياء علوم الدين، الإمام الغزَّالي، ج3 ص179، جدِّد حياتك، الشيخ محمد الغزالي ص96] ، وقال تعالى : ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46].

ولهذا استخدم القرآن في مخاطبة اليهود، والنصارى، تعبيرا له إيحاؤه ودلالته في التقريب بينهم وبين المسلمين، وهو تعبير (أهل الكتاب) أو (الذين أوتوا الكتاب) .

حتى المشركون الوثنيون لم يخاطبهم القرآن بقوله: “يأيها المشركون” بل كان يناديهم بقوله: “يأيها الناس”.

ولم يرد في القرآن خطاب للمشركين بعنوان الشرك أو الكفر، إلا في سورة (الكافرون) وذلك لمناسبة خاصة هي قطع الأمل عند المشركين أن يتنازل المسلمون عن أساس عقيدتهم، وهو التوحيد، ولهذا كرر فيها المعنى الواحد بصيغ عدة تأكيدا وتثبيتا ومع هذا ختمها بهذه الآية الكريمة التي تعد غاية في السماحة: (لكم دينكم ولي دين).

لينوا في يد اخوانكم :

قد كان من وصيته صلى الله عليه وسلم قبل الدخول في الصلاة : ( … ولينوا في أيدي إخوانكم … )   –  (صححه الألباني ) (صحيح الجامع 1187ورواه أبو داود)، وفي الصحيحين مرفوعا ألا أخبركم بأهل النار ؟ كل عتل جواظ مستكبر ، وقال صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بمن يحرم على النار – أو تحرم عليه النار – تحرم على كل قريب هين لين سهل رواه الترمذي . وقال : حديث حسن ، قال الله تعالى : وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا أي سكينة ووقارا متواضعين ، غير أشرين ، ولا مرحين ولا متكبرين . قال الحسن : علماء حلماء . وقال محمد بن الحنفية : أصحاب وقار وعفة لا يسفهون . وإن سفه عليهم حلموا .

والهون بالفتح في اللغة : الرفق واللين . والهون بالضم : الهوان . فالمفتوح منه : صفة أهل الإيمان . والمضموم : صفة أهل الكفران . وجزاؤهم من الله النيران .

وقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين .

جاء في زاد الخطباء : بالتي هي أحسن.. منهج رباني ومبدأ إيماني ومعلم قرآني:

رسخ القرآن لهذا المبدأ في ستة مواضع، اثنان منها في حديثه عن مال اليتيم، وتحذير الأوصياء من الاقتراب منه وأكله، فقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: ١٥٢]، وقال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الإسراء: ٣٤].

وموضعان في المجادلة، فقال تعالى:  {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: ١٢٥].

فلم يقل: {وجادلهم بالتي هي حسن} بل قال: {بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ} فجعل الجدال مع غير المسلمين ليس بالقبيح ولا بالحسن، بل بالتي هي أحسن، قال العلماء: أي: ألِنْ لهم جانبك، وجادلهم الحجة بالحجة، والدليل بالدليل، غير فظٍّ، وَلَا غليظ، بل قدِّم العفو والصفح واللين معهم على الدوام، وهو نفس الخطاب الذي أرسل الله تعالى به موسى وهارون إلى فرعون الذي ادَّعى الألوهية والربوبية، قال الله تعالى لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى} [طه: ٤٤].

 ويقول سبحانه: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: ٤٦].

وموضعان في مواطن دفع الاختلاف وأسباب الفرقة، حيث أمر المؤمنين أن يدفعوا هذه الأسباب بما أثمرته فيهم العبادات والقربات والأذكار والدعوات من خلق حسن يُستدعى في مثل هذه المواقف التي قلَّما ينجو فيها إلا من تحصَّن فيها بالمواريث النبوية من الأخلاق الحسنة والسلوكيات الرفيعة، فقال سبحانه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون: ٩٦].

جاء في زاد الخطباء : إحياء معنى الروابط الإنسانية والإيمانية عند الاختلاف:

لا بد من إحياء معنى الروابط الإنسانية والإيمانية عند الاختلاف، فقد تختلف الأفكار والرؤى ولكن لا تختلف القلوب، ويظل حبل الود ممدودًا، قال سيدنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي: “ما رأيت أحدًا أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي لوسعهم عقله، وقد ناظرته يومًا في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال لي يا أبا موسى لا يستقيم أن نكون إخوانًا، وإن لم نتفق في مسألة!!”. [رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق”].

قال الحافظ الذهبي معلقًا: “هَذَا يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ عَقْلِ هَذَا الإِمَامِ، وَفقهِ نَفْسِهِ، فَمَا زَالَ النُّظَرَاءُ يَخْتَلِفُوْنَ”. [سير أعلام النبلاء].

فإن اختلفت مع غير المسلم فحقه المجادلة بالتي هي أحسن كما امرك القرآن.

وإن اختلفت مع مسلم فله حق الأخوة الإيمانية، فلا يصح بحال أن تُكفره أو تفسقه؛ فعَنْ سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَذَلِكَ المُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» [رواه البخاري].

معرفة أنه لا يُنكر الاختلاف المبني على اجتهاد مقبول حيث جاء في زاد الخطباء :

فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد الناشئ عن الاختلاف في فهم النص؛ فعَنِ سيدنا ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ العَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ» فَأَدْرَكَ بَعْضَهُمُ العَصْرُ فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ”. [رواه البخاري].

وعن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَبْعَثه إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «كَيْفَ تَقْضِي إِذَا عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ؟»، قَالَ: أَقْضِي بِكِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟»، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا فِي كِتَابِ اللَّهِ؟» قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، وَلَا آلُو فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ، رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ» [رواه أبو داود، وأحمد].

وعن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه لقي رجلًا، فقال له: “ما صنعت؟ قال: قضى علي وزيد بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما يمنعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردك إلى كتاب الله أو إلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك”. [جامع بيان العلم وفضله].

فانظر- رعاك الله- إلى مدى أدب سيدنا عمر واحترامه لرأي المخالف؛ لأن مبناه الاجتهاد والنظر لا الدليل الظاهر الواضح.

الدعاء :

ومما يُعين على مقابلة السيئة بالحسنة الالتجاءُ إلى الله بالدعاء بأنْ يزيلَ ما في صَدْرك على إخوانك المسلمين، وخصوصًا ممن هو معاصر لكَ، ومَن هو من أقرانك، فالأقران وأصحاب الأعمال المتماثِلة يَحصل بينهم نزاعٌ وشِقاق لأسباب دنيويَّة، ورُبَّما أوْهَمَ الشيطان بعضَهم أنَّ هذه العَداوة لله، والأمر قد يكون بخلاف ذلك؛ يقول ربُّنا – تبارك وتعالى -: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].

و أن تقابل المسيء بالدعاء له ، وبهذا فَسر أنس بن مالك قول الله تعالى: ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾؛ حيث قال: يقول الرجل لأخيه ما ليس فيه، فيقول له: إن كنت كاذبًا، فإني أسأل الله أن يغفر لك، وإن كنت صادقًا فإني أسأل الله أن يغفر لي”.

كان صلى الله عليه وسلم يدعو بذلك :” وَاهْدِنِي لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ لَا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا َنْتَ؛ وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْتَ ” (الترمذي)، كذلك كان صلى الله عليه وسلم  يستعيذ من سوء الخلق فكان يقول : ” اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ ” . ( أبو داود والنسائي).

لذلك اهتم الصحابة بحسن الخلق وطلبه من الله، فعَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ : بَاتَ أَبُو الدَّرْدَاءِ اللَّيْلَةَ يُصَلِّي فَجَعَلَ يَبْكِي وَيَقُولُ : ” اللَّهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَأَحْسِنْ خُلُقِي، حَتَّى أَصْبَحَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، مَا كَانَ دُعَاؤُكَ مُنْذُ اللَّيْلَةِ إِلا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، قَالَ: يَا أُمَّ الدَّرْدَاءِ، إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَحْسُنُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ حُسْنُ خُلُقِهِ الْجَنَّةَ، وَيَسُوءُ خُلُقُهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ سُوءُ خُلُقِهِ النَّارَ” (شعب الإيمان للبيهقي).. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كان صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول “اللهم إني أعوذ بك من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق” – رواه أبو داود والنسائي.. يقول النبي صلى الله عليه وسلم:” ان شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من يتركه الناس لاتقاء فحشه” رواه البخاري 6054 و 3132 ومسلم 6539.

ومن منثور الحكم :

تجاوزوا عن الأخطاء فإن الكلام الجميل مثل المفاتيح تفتح به قلوب من حولك…

لا تعطي الأمور أكبر من حجمها .. إن رأيت أمامك حجر أرم به خلفك وتقدم…

تغافل مره وتغابى مرتان  فليس كل شيء يستحق الاهتمام ‎…

وفي الحديث : اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن  … رواه الترمذي وقال : حديث حسن..

جاء في زاد الخطباء لوزارة الأوقاف ما يلى نصا :

الخطبة الثانية: التحرش آفة قبيحة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فإن التحرش من أكثر الجرائم الأخلاقية والاجتماعية فتكًا بنسيج المجتمع وأمانه، فهو لا يمس ضحاياه فقط، بل يهدم قيم الاحترام المتبادل، ويقوّض الثقة بين أفراد المجتمع، ويزعزع الشعور العام بالأمن. وتكمن خطورته في أنه يتجاوز الفعل الجسدي أو اللفظي ليصير سلوكًا عدوانيًا ممنهجًا، يعكس انحرافًا نفسيًا وتربويًا حادًا. ومن هذا المنطلق، تولي حملة “صحح مفاهيمك” هذا الموضوع أهمية قصوى، باعتباره سلوكًا مرفوضًا دينيًا وأخلاقيًا وقانونيًا، يتطلب معالجة شاملة تستند إلى الوعي والردع وإعادة بناء المفاهيم.

ويؤكد الخطاب الشرعي أن كرامة المرأة مصونة، وأن الأذى اللفظي أو الجسدي لها يُعد عدوانًا صريحًا على ما أمر الله بحفظه.

 إن التحرش آفة مجتمعية يجب على المجتمع أن يتنزه عنها، ولنا في بيان ذلك عدة أمور:

الخلق الحسن عنوان المسلم

أرشدنا القرآن إلى أن نحسن أخلاقنا مع شركاء المجتمع، سواء كانوا مؤمنين أو غير ذلك، وسواء بادلونا بالإحسان إحسانا أم لا، ووضحنا سابقا كيف أن الله تعالى أمرنا بأن نقول للناس حسنا، ووجهنا إلى التزام هذا الأمر حتى وإن كان من نعامله على خلافه، فهناك فارق بين من يلتزم بالأمر الرباني بالخلق الحسن كما أمر الله تعالى وإن واجهنا في ذلك ما لا ترضاه نفوسنا، وبين من يلتزم الأخلاق بنا على ما تعود عليه من منافع!

وعفة المؤمن من جملة المحاسن التي ينبغي عليه أن يلتزمها وأن يسلك سبيلها كما أوضحه القرآن وبينته السنة النبوية.

غض البصر أمر إلهي واجب الاتباع

سواء تبرجت المرأة أم لم تتبرج فالرجل مأمور بغض بصره على الدوام، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} الآية [النور: ٣٠] ثم قال بعدها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ …}.

فإن اتفق أن وقع النظر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعًا، كما روي عن عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رضي الله عنه قَالَ : “سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ ؟ ” فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي”. [أخرجه مسلم].

وقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  لعلي: «يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن الأولى لك وليس لك الآخرة».

وفي «الصحيح» عن أبى سعيد قال: قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والجلوس في الطرقات»، قالوا: يا رسول اللَّه، لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها، فقال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه». قالوا: وما حق الطريق يا رسول اللَّه؟ قال: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر»، ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب، لذلك أمر اللَّه بحفظ الفروج، كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك.

بذاءة اللسان تغضب الرحمن

ونعني بها ما يذكره الإنسان بلسانه من الأمور المنافية للعفة والطهارة، ومن ذلك التحرش باللسان، وذكر مفاتن المرأة، والتعليقات الجنسية، والملاحقة بالإلحاح في طلب الحديث أو الصداقة، والتلميحات البذيئة مباشرة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

العلاج لمن ابتلي بهذه المصيبة

١- الابتعاد عن الأسباب التي تيسر لك الوقوع في هذه المعصية وتذكرك بها مثل:

إطلاق البصر، والنظر إلى النساء، سواء في الطرق أو عبر الشاشات.

العزلة والخلوة، فقد يزين لك الشيطان وتسول لك النفس فعل هذا المنكر.

الجلوس مع رفقاء السوء.

٢- اشغل نفسك دائمًا بما ينفعك في دينك أو دنياك كما قال الله تعالى: {فإذا فرغت فانصب} فإذا فرغت من عمل في الدنيا فاجتهد في عمل من عمل الآخرة كذكر الله وتلاوة القرآن وطلب العلم وسماع الأشرطة النافعة …

وإذا فرغت من طاعة فابدأ بأخرى، وإذا فرغت من عمل من أعمال الدنيا فابدأ في آخر … وهكذا، لأن النفس أن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ، فلا تدع لنفسك فرصة أو وقت فراغ تفكر في هذه الفاحشة.

٣ – قارن بين ما تجده من لذة أثناء هذه الفاحشة، وما يعقب ذلك من ندم وقلق وحيرة تدوم معك طويلًا ، ثم ما ينتظر فاعل هذه الفاحشة من عذاب في الآخرة ، فهل ترى أن هذه اللذة التي تنقضي بعد ساعة يقدمها عاقل على ما يعقبها من ندم وعذاب ، ويمكنك لتقوية القناعة بهذا الأمر والرضا به القراءة في كتاب ابن القيم ( الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي ) فقد ألفه رحمه الله لمن هم في مثل حالك – فرج الله عنا وعنك – .

٤- العاقل لا يترك شيئًا يحبه إلا لمحبوب أعلى منه أو خشية مكروه، وهذه الفاحشة تفوت عليك نعيم الدنيا والآخرة، وتفوّت محبة الله لك، وتستحق بها غضب الله وعذابه ومقته.

فقارن بين ما يفوتك من خير، وما يحصل لك من شر بسبب هذه الفاحشة، والعاقل ينظر أي الأمرين يقدّم.

٥- وأهم من ذلك كله: الدعاء والاستعانة بالله عز وجل أن يصرف عنك هذا السوء، واغتنم أوقات الإجابة وأحوالها، كالسجود، وقبل التسليم من الصلاة، وثلث الليل الآخر، ووقت نزول المطر، وفي السفر، وفي الصيام، وعند الإفطار من الصيام، وعند زيارة الصالحين.

٦- مجالسة الصالحين والإكثار من مخالطتهم سواء في المسجد أو زيارتهم في بيوتهم أو الحديث إليهم عبر الهاتف وغير ذلك من الوسائل.

ونسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا، وأن يتوب علينا، ويجنبنا وأهلينا والناس جميعًا سوء الأعمال والأخلاق آمين.

هذا ما تيسر جمعه في أكتوبر عام 2025

مع تحياتي لكم …الشيخ / رضا