بقلم الشيخ : أحمد عزت حسن الباحث فى الشريعة الإسلامية
تهاون كثيرٌ مِن الناس اليوم بأمر الدَّيْن، فتراه يستدين لحاجةٍ ولغير حاجةٍ؛ حتى إن الرجلَ إذا أراد أن يبدأ مشروعًا، فإن كان معه ألفٌ استدان ألفًا آخر، وبدأه بألفين، وإن كان معه عشرةٌ استدان عشرة أخرى، وهكذا…. وبعضهم يستدين لشراءِ الكماليات؛ فترى كثيرًا من الناس قد طوَّقهم الدَّيْن.
واعلم أن مَن مات مَدينًا فهو على خطرٍ عظيم؛ ففي الحديث الصحيح الذي رواه الترمذيُّ عن ثوبان رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: (مَن فارق الروحُ الجسدَ وهو بريءٌ مِن ثلاث دخل الجنة: الكِبْر، والدَّيْن، والغلول) [صحيح: أخرجه أحمد (٢٢٣٦٩)، والترمذي (١٥٧٣)، وابن ماجه (٢٤١٢)]، والغلول: هو السرقة مِن المال العامِّ. وروى الترمذي -وحسَّنه- عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: (نفس المؤمن مُعلَّقةٌ بدَيْنه حتى يُقضَى عنه) [صحيح: أخرجه أحمد (٩٦٧٩)، والترمذي (١٠٧٩)، وابن ماجه (٢٤١٣)].
فضلُ إقراض المحتاج: أحيانًا تحلُّ بالمسلم فاقةٌ، فيبيت في الهمِّ ويُصبح بالغم، ولا يدري كيف يتصرف، ولا يريد أن يطلب الصدقة، وإنما ينظر يمينًا وشمالًا، ويدور فكرُه ليقع على صديق قديم، أو أخ عزيز، أو جارٍ كريم ليطلب منه النجدة، يريد قرضًا حسنًا إلى أجل مسمى، (والله في عَوْنِ العبد ما كان العبد في عون أخيه) [مسلم (٢٦٩٩)].
هنا يحثُّ الإسلامُ الأغنياءَ على إقراض إخوانهم الفقراء، ورتَّب على ذلك أجرًا عظيمًا؛ فقد جعل منح المسلم القرضَ كعتقِ رقبةٍ لله؛ فقد روى الترمذي -وقال: حسنٌ صحيح- عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: سمِعتُ رسول الله ﷺ قال: (مَن منح منيحة ورقٍ، أو منيحة لبنٍ، أو أهدى زقاقًا، فهو كعتاق نسمةٍ) [الترمذي (١٩٥٧)، وقال: حسن صحيح].
منيحة ورق: إقراض الدراهم.
منيحة لبن: إقراض الشاة للفقير، يأخذ لبنها ثم يردها.
أهدى زقاقًا: هداية الطريق للغريب والأعمى، ونحوهما.
فجعل الإسلامُ إقراضَ المحتاج كعتق رقبةٍ، وهناك حديثٌ صحيحٌ في فضل عتق الرقاب يُبين أن (مَن أعتق رقبةً أعتق الله بكلِّ عضوٍ منها عضوًا منه مِن النار) [البخاري (٢٥١٧)، ومسلم (١٥٠٩)].
فمن أفضل الأعمال وأحسنها وأجلِّ الطاعات وأعظمها أن يسعى الإنسان لتفريج الكربات وقضاء الحاجات وإقالة العثرات؛ تقربًا إلى الله عزَّ وجلَّ لنيل الرضا ورفع الدرجات؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.. الحديث» أخرجه الإمام مسلم في “صحيحه”.
وإقراض المحتاج رفقًا به وإحسانًا إليه دون نفعٍ يبتغيه أو مقابلٍ يعود عليه هو من قبيل تنفيس الكربات التي يضاعف الله بها الأجر والثواب؛ مصداقًا لقول المولى تبارك وتعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة: ٢٤٥]، وقوله عزَّ وجلَّ: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: ١١].
١- استحبابُ التصدُّق على الرجل إذا علم الناس أنه مدينٌ حتى يقضي دينه: ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: أُصيب رجلٌ في عهد رسول الله ﷺ فقال: (تصدقوا عليه) فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دَيْنه، فقال ﷺ لغُرمائه: (خُذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك) [مسلم (١٥٥٦)].
٢- جواز طلب المدين من الدائن أن يضع عنه بعض الدَّيْن: فعن عائشة رضي الله عنها، قالتْ: سمِع رسول الله ﷺ صوت خصوم بالباب، عاليةٌ أصواتهم، وإذا أحدهم يستوضع الآخر ويسترفقه في شيءٍ، وهو يقول: والله لا أفعل، فخرَج عليهما رسول الله ﷺ فقال: (أين المتألِّي على الله لا يفعلُ المعروف؟) فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أَحَب” [البخاري (٢٧٠٥)، ومسلم (١٥٥٧)]. قال النووي رحمه الله: في الحديث دليلٌ على أنه لا بأس بمثل هذا، ولكن بشرط ألا ينتهي إلى الإلحاح وإهانة النفس.
٣- حكمُ كتابة الدَّيْن: الجمهور على أن كتابة الدَّيْن مُستحبةٌ؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢].
وكذلك الإشهاد على هذه الكتابة مُستحبٌّ؛ لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ… ﴾ وكلُّ ذلك حتى لا يختلفوا عند القضاء بسبب الجحود أو النسيان ونحوهما.
٤- حكُم مَن ادَّعى أنَّ له دَينًا على آخر وليس له إلا شاهدٌ واحدٌ:
من المعلوم أن الدَّين إذا لم يكن مكتوبًا فلا يثبتُ إلا بشاهدين، فماذا يفعلُ من ادعى أن له دينًا على آخر وليس معه كتابةٌ، ولكن معه شاهدٌ واحدٌ؟
الجواب: يدلي هذا الشاهد بشهادته، ثم يحلفُ صاحب الدَّين يمينًا مكان الشاهد الثاني، وبذلك يستحق دينه، والدليل: ما رواه مسلمٌ عن ابن عباس، أن رسول الله ﷺ قضى بيمين وشاهدٍ” [(١٧١٢)].
٥- حكمُ الانتفاع بالرهن: في بعض الأماكن سمعنا بعادةٍ سيئةٍ، وهي أنَّ الرجل إذا أراد أن يقترضَ مِن آخر مبلغًا كبيرًا أعطاه قطعةَ أرض رهنًا ينتفع بها، ويزرعها حتى يردَّ إليه القرض، فيرد إليه قطعة الأرض! وهذا لا يجوز، بل هو قرضٌ جرَّ نفعًا مشروطًا، فصار ربًا لا محالة.
جمهور العلماء على أن الرهن لا ينتفع به إلا إذا كان حيوانًا؛ فينتفع به بالركوب أو بلبنه بقدر نفقته عليه. ففي صحيح البخاري، أن النبي ﷺ قال: (الرهن يُركَب بنفقته، ويُشرب لبن الدر إذا كان مرهونًا) [(٢٥١١)]. قال ابن قدامة رحمه الله تعالى: “ولا ينتفع المرتَهِنُ مِن الرهن بشيءٍ إلا ما كان مركوبًا أو محلوبًا، فيركبُ ويحلبُ بقدر العلف” [المغني (٦/ ٥٠٩-٥١١).] اهـ.
رجلٌ له زرعٌ وعليه دينٌ يحيط بثمن الزرع، هل عليه زكاة؟
ثلاثة أقوال:
١- يُؤدِّي زكاة زرعه أو ماشيته؛ لأنها أموالٌ ظاهرةٌ، والدَّينُ يمنع الزكاة في المال الباطن دون الظاهر؛ وهو قول مالك والأوزاعي.
٢- يقضي ما أنفق على ثمرته (زرعه)، ثم يُزكِّي ما بقي؛ وهو قول ابن عباس [حسن: رواه البيهقي (٤/ ١٤٨)، بسند حسَن].
٣- يقضي دَيْنه، وليس عليه زكاةٌ؛ لا في المال الظاهر ولا في المال الباطن؛ وهو قول ابن عمر [حسن: رواه البيهقي (٤/ ١٤٨)، بسند حسَن]، وطاوس، وعطاء، ورجَّحه أبو عبيد في الأموال [الأموال لأبي عُبيد (١٥٤٥)]؛ لأنه فقيرٌ، والصدقة تُؤخَذ من الأغنياء، وهو الراجحُ إن شاء الله؛ لقوله ﷺ: (خير الصدقة ما كان عن ظَهْر غنى) [البخاري (١٤٢٦)، والنسائي (٢٥٤٢)، وأحمد في (المسند) (٢/ ٤٧٦)].
٦- رجلٌ له دينٌ عند فقيرٍ، فهل يجوز أن يسقطَ عنه الدَّين ويحسبه من الزكاة؟
الجواب: سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن ذلك؟ فقال: لا يجزئه ذلك. وسُئِل شيخ الإسلام، فقال: إسقاط الدَّين عن المعسر لا يجزئ عن الزكاة، إلا إذا أسقط عنه قَدْر زكاة ذلك الدَّين فقط، كأن يكون الدين عشرة آلاف، فيُسقط عنه مائتين وخمسين منها، فهذا جائزٌ على قول الأحناف [المبسوط للسرَخسي (٢/ ٢٠٣)]، ورجحه ابن تيميَّة [(الفتاوى) (٢٥/ ٨٤)] رحمهم الله.