فقه المقاصد في ضوء مقامات التصوف


سلسلة : مقالات في الفقه الإسلامي المعاصر

بقلم الأستاذ : مهدى صالحى

 

يؤسس الفهم المقاصدي الأنموذج التطبيقي الحيوي الذي يتخذه المكلّف المسلم إطارا مرجعيا في معاملاته وممارساته الشعائرية حتى لاتتناقض مع أصول التشريع وقطعياته، وللفهم المقاصدي أثر في إعادة تشكيل الوعي بطبيعة الممارسة التعبّدية حتى لاتنحرف عن هذا الأنموذج الذي تحكمه ثنائية الوعي المقاصدي والنزعة الصوفية العرفانية؛ فأيّ عمل يؤدّيه المسلم إذا غابت فيه  هذه المقامات العرفانية من قبيل:”الإخلاص، العرفان، الشوق، الخوف، الرجاء، المحبّة…” يقع في دائرة الرتابة والملل وبذلك لن يتحقق المقصد الأعلى من الفعل التعبّدي المتمثّل في إرضاء الله وامتثال مقاصده من التكليف قال تعالى:”قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ” ففي سياق هذه الآية تعليل مقاصدي للتكاليف الشرعية التعبّدية وحتى الدنيوية هو سلامة القصد من دنس الرياء وحب الظهور والشهرة حتى يكون العمل خالصا لوجه الله فهو المقصد الأعظم والمثل الأعلى.

وتأسيسا على هذا التأصيل المقاصدي العرفاني فإنه يستوجب التمييز بين المقاصد الحقيقية والمقاصد الفاسدة الوهمية كالرياء والنرجسية والإعجاب بالذات التي تمثل شهوات معنوية فاسدة ومحرّمة ناجمة عن جهل مركّب وباعتبارها واردات شيطانية تلوّث الضمير الإسلامي ويترتّب عنها مساوئ أخلاقية لاإنسانية تجعل المكلّف منحرفا عن المسار الرشيد الذي أبانه الوحي ممّا يخلق مسافة واسعة بين الإنسان والمعبود ،

وإن البديل العملي هو تفعيل المقاصد الحقيقية وهي تلك المقامات الصوفية المتأصّلة في النصوص التأسيسية قصد الارتقاء بالتجربة التعبّدية العرفانية تحقيقا لصفاء النفس من الأهواء والميولات ولأن في التشهّي مفاسد لاتنطبق مع المقاصد الشرعية الحقيقية التي يختزلها قوله تعالى:”فمن كان يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا ولايشرك بعبادة ربّه أحدا.”أي يشترط في العمل التعبّدي وجوب سلامة المقصد النابع من الضمير من مفاسد الشرك والرياء حتى يكون قصد المكلّف في ممارسته للتكليف متناسقا مع مقصد الله في الفعل قال تعالى:”وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم”.

وإذا كانت العبادة في مفهومها العام هوالطاعة المطلقة لله وفي معناها الاصطلاحي اسم جامع لكلّ مايحبّه الله ويرضاه فإنّ المحبّة الإلــهية للإنسان هي مصلحة حقيقية مقصودة من التكاليف الشرعية التي تتعدّى المجال الشعائري إلى اتجاهات مغايرة وهي البناء الحضاري الذي هو في جوهره مسؤولية دينية ربّانية،وهذه المسؤولية هي تجلّ لضروب العرفان ومراتب الإحسان قالﷺ :الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك”

وبهذا المنحى العرفاني الذوقي فإن للتعبّد مدلول واسع هو استشعار الرقابة الإلــهية ،وعالم الرقابة هو حقيقة ذوقية تؤلّف لمعاني القرب من الله كما في الحديث القدسي:من تقرّب إليّ شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب إلي ذراعا تقرّبت منه باعا..” وتؤلف لمقصد المحبّة الذي هو من أسمى المقامات العرفانية مصداقا لقولهﷺ:من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه”

إن مثل هذه المقاربة المقاصدية الصوفية لها دور تجديدي في قراءة نصوص الشريعة لتصحيح الفهوم المغلوطة السائدة حول حقيقة المنهج الذي رسمه الوحي ،ولهذه الرؤية التنويرية الدور الريادي البنّاء في الوعي الحضاري والاجتماعي ولتقريب العقل الإسلامي اليوم إلى الثوابت العقدية والتشريعية التي أضحت بمثابة التمثال في أروقة المتاحف جرّاء الجمود والجحود ولذلك فإنّ تفعيل الفكر الصوفي العرفاني المنضبط لمقاصد الشريعة هو الأداة لتقليص المساحة الشاسعة بين الثابت والمتغيّر