وقفة مع ( التحذير من الوقوع في فخُّ اليأس والقنوط )


بقلم الدكتور : محمد فهمي رشاد

مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا

قال ابن الجوزي – رحمه الله -: ” اليأسُ: القَطعُ على أن المطلوبَ لا يتحصل لتحقيق فواته. ”

وقال الشوكاني – رحمه الله -: ” القنوطُ: الإياسُ من الرحمة. “
فاليأس: هو انقطاع الأمل بشكل عام في تحقيق أمر من الأمور.
أما القنوط: فهو شدة اليأس مع شعور بالحزن والإحباط العميق، وهو أقوى من اليأس، ويحمل نوعًا من السخط أو الاعتراض الباطني.

والقنوط أعم من اليأس؛ فكل قنوط هو يأس، لكن ليس كل يأس هو قنوط.

فاليأس والقنوط هما نقيضا الرجاء وحسن الظن بالله؛ فبينما يحمل الرجاء أملاً في رحمة الله ولطفه، يُجَسِّد اليأس والقنوط انقطاع الأمل وسوء الظن بكرم الله ومغفرته.

وكلاهما مذمومان شرعًا، ويؤديان إلى تعطيل النفس عن السعي والإصلاح.

وقد جاء في القرآن ذمُّ اليأس والقنوط:
قال الله – تعالى -: { قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ }. أي لا تكن من الآيسين من رحمة الله أو المستبعدين لقدرته، فإن قدرة الله لا يعجزها شيء.

وقال الله – تعالى -: { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ }. أي مَن ييأس ويستسلم لفقدان الأمل، من الفرج والرزق والمغفرة والعطاء، فأولئك هم المنحرفون عن طريق الهدى، الذين لا يعرفون عظمة الله ورحمته.

وقال الله – تعالى -: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }. تُعَدُّ هذه الآية من أعظم آيات الرجاء في القرآن الكريم، وهي نداء موجَّه إلى كل مَن أسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي: ألّا يقنط، وألّا ييأس، وألّا يفقد الأمل في رحمةِ ومغفرةِ وعفوِ ربّه الكريم.

كما جاء في السنة المطهرة ذمُّ اليأس والقنوط:
عن أبي هريرة – رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله ﷺ: ” قال الله – عز وجل -: أنا عند ظن عبدي بي، فإن ظنّ بي خيرًا فله، وإن ظنّ بي شرًا فله.” فحسن الظن بالله يفتح باب الرجاء ويمنع اليأس، ومن أساء الظن وقنط، نال من ذلك ما ظن، فاليأس مذموم.

وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه -، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ” يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أُبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك، يا ابن آدم، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تُشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة.” هذا الحديث يدعو إلى عدم القنوط مهما كثرت الذنوب، فالباب مفتوح بالتوبة والاستغفار، مما يدل على ذم اليأس والقنوط .

وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ : ” لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد. ” في الحديث ذمّ النبي ﷺ قنوط الكافر، مع أنه أبعد الناس عن الرحمة، فدلّ على أن القنوط من رحمة الله مذموم مطلقًا،

كما بيَّن الحديث أن رحمة الله أعظم من أن يُقنط منها، حتى لو كان العبد كافرًا أو مذنبًا، فكيف بالمؤمن؟!، فاليأس من رحمته جهل وسوء ظن بالله.

وقد أجمع العلماء على تحريم اليأس والقنوط، وأن منه ما يخرج من الملة وهو ما انعدم معه الرجاء، ومنه ما لا يخرج من الملة وإنما هو من الكبائر.

وأنهما عموما من أكبر الكبائر، بل أشد تحريمًا من الكبائر الظاهرة، وقد عدَّ الإمام القرطبي اليأس والقنوط في الكبائر بعد الشرك بالله من حيث الترتيب.

قال علي بن أبي طالب – كرَّم الله وجهه – لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: يا هذا، يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك.”

وقال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – : ” الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله. ” في هذا الأثر عدّ القنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله من أعظم الكبائر، وقرنهما مع الشرك بالله، مما يدل على شدة خطورتهما وذمهما في الشرع.

وقال محمد بن سيرين:
” الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى.”

وقال سفيان بن عيينة:
” من ذهب يقنِّط الناس من رحمة الله، أو يقنِّط نفسه فقد أخطأ.”

نخلص من ذلك إلى أن الوقوع في فخِّ اليأس والقنوط من رحمة الله – عز وجل – ، ليس مجرد شعورٍ سلبيٍّ عابر؛ بل هو من أخطر ما يُبتلى به القلب، لما فيه من سوءِ ظنٍّ بالله، وتعطيلٍ لدافع التوبة والعمل، وقطعٍ لطريق الرجاء الذي هو حياة القلوب.

معاً نحو رجاء لا ينقطع، وقلب لا يقنط