“نونية القحطاني”النونية المنحولة، كذبة وهابية لتزييف التراث ودعم العقيدة الفاسدة

بقلم / محمد نجيب نبهان
كاتب وباحث وناقد فني وتاريخي

لم تكن النونية المنسوبة إلى القحطاني سوى أداة في يد دعاة التكفير لتلميع مشروعهم العنيف، إذ أُلصقت بشاعر مجهول لا وجود له في كتب التراجم، وأُلبست ثوب الأندلس لتبدو أصيلة وهي في حقيقتها نصٌّ متأخر، كُتب في أجواء نجد الوهابية، ثم رُوِّج له على أنه تراث سني أصيل. هذه القصيدة ليست إلا صناعة أيديولوجية رخيصة، نصًّا ملفقًا بلا شاعر، وخطابًا غوغائيًا يفتقد إلى القيمة الأدبية والرصانة العقدية.

أولًا: سراب النسبة وأسطورة القحطاني

الشخصية المنسوبة إليها القصيدة، “القحطاني الأندلسي”، سراب محض. لا نجد له ذكرًا في مصادر الأندلسيين التي حرصت على توثيق كل شاعر وفقية وفيلسوف. لم تذكره كتب مثل “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” لابن بسام، ولا “المغرب في حلى المغرب” لابن سعيد، ولا حتى مصنفات الفهارس الأندلسية. كيف يمكن لشاعر يكتب قصيدة من مئات الأبيات أن يُمحى أثره محوًا كاملًا؟

هذا التلاشي الغريب دليل على أن الاسم مختلق وُضع لاحقًا لإضفاء هالة الماضي على نص حديث، كما فعل الوهابيون حين نسبوا كلامًا متأخرًا إلى سلف الأمة ليصنعوا شرعية زائفة.

ثانيًا: الفوضى الموضوعية وتفكك النص

النونية لا تحمل أي سمات الوحدة الموضوعية. بل هي خليط مرتبك: مدح للصحابة، هجاء للشيعة، زهد مصطنع، لعن للفلاسفة والصوفية. هذه الفوضى الفكرية تجعل القارئ أمام منشور وهابي متأخر مُطوَّل على هيئة أبيات، لا أمام قصيدة أندلسية متماسكة.

النقلة السريعة بين مدح أبي بكر وعمر، ثم شتم الرافضة بألفاظ سوقية، ثم هجاء الصوفية، دليل على عبث أيدٍ متعددة بالنص. إننا لا نقرأ تجربة شعرية، بل نقرأ نصًا سياسيًا تحريضيًا بلغة مقفاة.

ثالثًا: لغة الشتيمة بدل البلاغة

اللغة التي يطفح بها النص أقرب إلى لغة المنابر الشعبوية. فبدل الصور الشعرية والاستعارات، نجد السباب العاري والتكفير المباشر. مثلًا، يصف أحد المقاطع الصوفية بالكفر الصراح، ويصور الشيعة بأوصاف حيوانية، ويقذف الفلاسفة كأنهم زنادقة بلا برهان.

هذا الخطاب ليس أدبًا ولا شعرًا، بل “بلطجة فكرية” بلباس شعري. وهو ما يفضح هدفه الحقيقي: تعبئة الأتباع بالعداء، لا بناء رؤية معرفية.

رابعًا: رائحة نجدية تفضح الزيف

النونية ليست أندلسية النكهة ولا الروح. فالأندلس عرفت صراعها مع الممالك المسيحية، وازدهرت فيها الفلسفة والتصوف، ولم يكن التشيع موضوعًا مركزيًا فيها. أما أن نرى النص مهووسًا بالرافضة والفلاسفة والصوفية في آن واحد، فهذا يطابق البيئة النجدية في القرن الثامن عشر، حيث الوهابية جعلت هذه الفئات هدفًا للتكفير والقتال.

التشابه بين لغة النونية ولغة محمد بن عبد الوهاب في “كتاب التوحيد” صارخ: العدو واحد، والخصم واحد، والأداة واحدة — التكفير واللعن. هذا التطابق يكشف أن النص لم يأتِ من أجواء قرطبة وغرناطة، بل من أودية الدرعية ونجد.

خامسًا: خرافة عقدية بلا برهان

إن من يجعل النونية مرجعًا في العقيدة يهين العقيدة نفسها. فهي تخلو من البرهان القرآني والحديثي، وتستعيض عنه بالشتائم. العقيدة السنية تقوم على الوحي والعقل، أما النونية فتقوم على الغضب والتعصب. من يستند إليها يظن أنه يدافع عن التوحيد، لكنه في الحقيقة يحول التوحيد إلى صرخات غوغائية.

أحد الأبيات التي تتعرض للفلاسفة يكفي لإظهار هذا الانحطاط: البيت لا يرد على حجة فلسفية، ولا ينقض مذهبًا، بل يكتفي بلعن الفيلسوف كأنه كائن دنس. هذه ليست عقيدة، بل تحريض.

سادسًا: أمثلة تكشف التلفيق

في مقطع يهاجم الصوفية نقرأ ما معناه: “أهل وحدة الوجود كفار صراح”. هنا يختزل النص مدرسة فكرية عميقة إلى شتيمة. أين الحجة؟ أين النقاش العلمي؟ بل أين الروح الأندلسية التي عرفت ابن عربي وابن سبعين؟

وفي هجاء الرافضة، يكرر النص ألفاظًا مشينة من دون دليل. هذا التكرار الممجوج يكشف أن الغرض تعبئة الكراهية لا إقامة البرهان.

سابعًا: البنية الملفقة

النونية أشبه بعمل مركب. هناك مقاطع ذات نفس زاهد تقترب من وعظ متأخر، وأخرى لسانها مسموم في اللعن. الفارق الأسلوبي بين هذه الأجزاء يوحي بتعدد المؤلفين أو بتدخل نُسّاخ ووعاظ أضافوا إليها عبر الزمن. إن هذا التناقض الداخلي يعزز فكرة أنها نص مُجمّع، لا عمل أصيل لشاعر مجهول.

سقوط النص وسقوط الوهابية

النونية المنسوبة إلى القحطاني ليست سوى كذبة وهابية، نُسجت لتزييف التراث وإسناد مشروع التكفير إلى ماضٍ مجيد موهوم. هي خرافة مزدوجة: خرافة في النسبة، وخرافة في المضمون.

إن كل من يتخذها مرجعًا يبني إيمانه على رماد الشتائم، لا على نور القرآن. وهي شاهد دامغ على أن الوهابية لم تكتفِ بتحريف الدين في حاضرها، بل زوّرت الماضي لتخدم عقيدتها الفاسدة.

النونية ليست ذخيرة من ذخائر السنة، بل فضيحة فكرية وأدبية، نصًّا ساقطًا لا يليق أن يكون إلا شاهدًا على إفلاس الوهابية في البحث عن الشرعية.