احتفالات الحب…المولد النبوي الشريف

بقلم فضيلة الشيخ : يوسف محمد السعداوى
من علماء الأزهر والأوقاف

إذا أردنا أن نعدد لحظات السعادة في حياتنا، فسنجد أنها ربما تكون أوقاتًا قليلة وسط زحام العمل ومشاغل الحياة، هذه اللحظات كفيلة بأن تعيد للإنسان سلامه النفسي وتجدد له نشاطه من جديد.

إن السعادة مطلب لكل إنسان، يبحث عن لحظاتها القليلة وأوقاتها المحدودة بين الدقائق والساعات، ويبتكر لها المناسبات ويصنع لها البهجة التي تدخل السرور على نفسه.

فعندما يتمكن من مناسبة يحق له فيها الاحتفال، يجد ويجتهد في إيجاد الوسائل وإحضار الأشياء التي يحبها، والناس الذين يسعد معهم وبصحبتهم، لتكتمل فرحته وسعادته.

ولا تخلو مظاهر الاحتفال من إعداد الأطعمة والمشروبات للاستمتاع بالمناسبة والسعادة بها.

غالبًا الاحتفالات كلها مشاركات اجتماعية بين الناس، يغلب عليها المظهر الاجتماعي، فقلما تجد إنسانًا يحتفل مع نفسه إلا إذا كان فاقدًا للأحباب.

فالإنسان بطبعه يحب مشاركة غيره المناسبات والاحتفالات؛ ليدخل على نفسه السرور والبهجة.

هذه المشاركة تعبيرًا منه عن الحب والتفاعل مع أقرانه، فهو قد يكون الاحتفال لا يمت إليه بمناسبة، بل هو مناسبة غيره، إلا أنها فرصة حقيقية للحظات سعيدة مع الآخرين.

ولا تخلو هذه المناسبات أبدًا من أشياء حدثت للإنسان أو حصل عليها، تدفعه إلى الاحتفال لإبراز مظاهر السعادة.

ولو نظرنا إلى الاحتفال في مضمونه عند حصول السرور للإنسان بأمر ما، سنجد أنه من باب: (فأما بنعمة ربك فحدث).

يظهر هذا المعنى جليًا عندما يبدأ الإنسان في الاحتفال أو يدعو الناس إليه، فالسؤال البديهي في أول الأمر:
ما هي المناسبة السعيدة التي تدعونا أو تحتفل بها؟

وهنا يبدأ الحديث بنعمة الله عليه التي دفعته إلى الاحتفال.

وهو يجسد أيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده).
ومن أهم مظاهر ظهور أثر النعمة: السعادة بها، ومشاركة الفرحة بها مع الأحباب.
إنه من باب إظهار أثر النعمة وشكر المنعم جل في علاه.

النبي صلى الله عليه وسلم أعظم نعمة

إذا كنا نعد السعادة والفرح والاحتفال بنعم الله علينا من باب شكر المنعم سبحانه وتعالى علينا، فعلينا أن نثمن النعم العظيمة التي أنعم الله بها علينا، خصوصًا وإن كان أثر هذه النعمة باق ويعم المسلمين من يوم أن أنعم الله بها عليهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وما أظن أن هناك نعمة مزداة أعظم من نعمة ميلاد الحبيب وبعثته رحمة للعالمين.
إن الخطباء على المنابر كل جمعة يستهلون خطبهم بعد الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بقولهم: (الرحمة المهداة والنعمة المزداة والسراج المنير).

إنه اعتراف صريح على مسامع القائل والسامع بأنه صلى الله عليه وسلم (النعمة المزداة)، التي لا يدانيها نعمة مهما عظمت منتها على الخلق.
أفلا يجب شكرها وإظهار أثرها على العباد، والاحتفال بيوم أن منّ الله على البسيطة فأنارها من ظلم الجهل والجاهلية بيوم مولده؟

احتفال الكون بيوم مولده صلى الله عليه وسلم

هناك في نواميس الكون إعدادات باهرة للاحتفال بقدومه صلى الله عليه وسلم إلى الدنيا، تعالوا نتعرف عليها:

أولها:
استعداد السماء لمولده صلى الله عليه وسلم برصد الجن بالشهب بعدما كانوا يقعدون منها مقاعد للسمع:
(وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع، فمن يستمع الآن يجد له شهابًا رصدًا).

ترتيب الكون للإنهاء على تنزل الشياطين واندحار كل أفاك أثيم، والقضاء على الدجل والباطل، تمهيدًا لإحقاق الحق على يد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

ثانيها:
تصدع إيوان قصر كسرى المجوسي، وانطفاء نار المجوس التي ظلت متقدة لألف عام لم تنطفئ، استعدادًا لزوال الاستعباد والظلم، والنار بالحق والعدل، والنور بمولده صلى الله عليه وسلم.

ثالثها:
هلاك الباغي أبرهة الحبشي بأعظم آية لا تزال يتلوها القرآن الكريم إلى اليوم، وسُمّي عام مولده بـ “عام الفيل” نسبة إلى هذه الواقعة، إعلانًا أنه صلى الله عليه وسلم مؤيد بالقوى العلوية والنواميس الكونية.

رابعها:
الرؤية الشريفة التي رأتها الشريفة الطاهرة آمنة بنت وهب، أم الشريف النسيب، خير الخلق الحبيب، عندما حملت به صلى الله عليه وسلم، حين رأت سلسلة خرجت منها فوصلت إلى عنان السماء فأضاءت ما بين السماء والأرض.

خامسها:
نزوله صلى الله عليه وسلم من بطن أمه إلى الأرض ساجدًا شاكرًا لربه على نعمة مولده واصطفائه ليكون رحمة للعالمين.
ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم احتفل بالسجود يوم مولده؟

لقد احتفل الكون بنواميسه أيما احتفال بمقدمه صلى الله عليه وسلم، وكل مخلوق يحتفل بمعطياته وأسبابه، فإن كانت نواميس الكون تحركت لمولده تمهيدًا لقدومه، ألا ترى أنه احتفال بمولده؟

ثم هذا الاحتفال القرآني به صلى الله عليه وسلم حين يقول:
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم)،
وعلى قراءة من قرأ: (أَنْفَسِكُم)، أي: لا لبشر أن يدانيه قدرًا عند الذات العلية.

إن الاحتفال يكون بالنعمة ويكون بالمحبوب، ومن يريد الاحتفال به صلى الله عليه وسلم سيجد دافعه في فطرة كل إنسان يسعد لنعم الله عليه.
إن المحبين دوافعهم كثيرة للاحتفال بالحبيب صلى الله عليه وسلم.

أما المغرضون الذين فقدوا بصلة الفطرة الإنسانية، وتجمدت مشاعر الحب داخلهم، فليس لهم إلا مبرر واحد في ترك الاحتفال وتبديع المحتفلين، هذا المبرر تبرره فطرتهم المنتكسة ونفوسهم المريضة حين يقولون:
“إنه صلى الله عليه وسلم لم يحتفل ولم يأمر بالاحتفال”.

لقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأمر للسعة، وترك المحبين لإبراز مظاهر حبهم له صلى الله عليه وسلم دون طلب منه، ليبتلي من فتن عن الحب بمن يحب ويبرهن عن حبه.

ختامًا:

لقد احتفل النبي صلى الله عليه وسلم بيوم مولده الذي هو أسعد أيام الدنيا، واحتفل أصحابه باحتفاله، حين كان يصوم يوم الاثنين من كل أسبوع، ولما سُئل عن ذلك قال:
“هذا يوم وُلدت فيه”.

ألا ترون أنه يحتفل بمولده كل أسبوع؟ ونحن المقلون المقصرون في حقه نحتفل في كل عام مرة، ثم تلوموننا؟!
إن أمركم لعجيب !!!!!

إنه الحبيب الذي أحبه الله تعالى، فدعاه في رحلة المعراج إلى عرشه سبحانه، فولج مولجًا احتفى به الخالق سبحانه وتعالى عنده، وأطلعه على ما لم يطلع عليه قبله ولا بعده ملك مقرب أو رسول مجتبى.

احتفى به رب الأرض والسماوات، واحتفلت به السماوات، واحتفلت به نواميس الكون، ويحتفل به المؤمنون الذين أحبوه بصدق من أهل الأرض.

نحتفل حتى نظل نذكر هذا اليوم العظيم الخالد، الذي وُلد فيه أعظم رسول صلى الله عليه وسلم.
وتتوالى احتفالات المحبين المخلصين الصادقين.

وكل عام والأمة الإسلامية كلها بخير وسعادة.

مبارك عليكم شهر ربيع الأول شهر مولد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.