مرت مئات السنين على بناء الكعبة حتى تشقق بنيانها وتصدعت جدرانها، كما جاء سيل جارف لمكة وانحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة بسببه على الانهيار، فاضطرت قريش إلى تجديد بنائها حرصًا على مكانتها، وذلك قبل بعثته صلى الله عليه وسلم بخمس سنوات، واتفقوا على ألا يدخلوا في بنائها إلا طيبًا، لا مهر بغى ولا بيع ربًا ولا مظلمة أحد من الناس.
وهابت قريش من هدمها أن يصيبهم مكروه أو سوء، فابتدأ بها الوليد بن المغيرة، فأخذ المعول وقال: اللّهم لا نريد إلا الخير، ثم هدم ناحية الركنين، ولما لم يصبه شيء تبعه الناس في الهدم حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم، ولما بدأوا في البناء خصصوا لكل قبيلة جزءًا من الكعبة، فجمعت كل قبيلة حجارة على حدة، وأخذوا يبنونها، وتولى البناء بناء رجل رومي اسمه: باقوم.
وقصرت بقريش النفقة الطيبة فأخرجوا من الجهة الشمالية نحوا من ستة أذرع، وهي التي تسمى بحجر اسماعيل أو الحطيم، ورفعوا بابها من الأرض؛ لئلا يدخلها إلا من أرادوا، ولما بلغ البناء خمسة عشر ذراعًا سقفوه على ستة أعمدة.
وقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم في بنائها، وفي صحيح البخاري لما بُنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وعمه العباس ينقلان الحجارة، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: اجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة، فخر إلى الأرض، وَطَمَحَتْ عيناه إلى السماء، فقال: “أرني إزاري”، فشده عليه.
ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود اختلفوا فيمن يفوز بشرف وضعه في مكانه، واستمر النزاع أربع ليال أو خمسًا، واشتد حتى كادت الحرب تنشب بينهم في أرض الحرم، إلا أن أبا أمية بن المغيرة اقترح عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد فارتضوه، وشاء الله أن يكون ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين رضيناه هذا محمد، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر، طلب رداء فوضع الحجر وسطه وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعًا بأطراف الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه، وهذا من عبقريته صلى الله عليه وسلم في حل المشكل ونزع فتيل الأزمة.
ومن خلال هذا الموقف النبوي يتضح أن محمدا صلى الله عليه وسلم يمتاز بشخصية توافقية اجتماعية ائتلافية بالفطرة ترغب في الوحدة والائتلاف وتنبذ الفرقة والاختلاف، وبعد البعثة النبوية ازدادت ملكته الاجتماعية والاتلافية، فقد حث القرآن الكريم على ذلك، فقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، ونهى عن الفرقة والاختلاف فقال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[آل عمران: 105]، ويظهر حرصه على الاجتماع جلياً حينما اقترحت السيدة عائشة رضي الله عنها، على النبي صلى الله عليه وسلم، أن يعيد بناء الكعبة على قواعد إبراهيم؟ فامتنع صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك، وقال: “يا عائشة، لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية، لأمرت بالبيت فهدم، فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم”، فترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة مخافة مفسدة كبرى متوقعة: وهي فتنة قريش وتفرقهم وتنازعهم لاختلافهم على الهدم فتضيع قدسية البيت من قلوبهم بين الرفض أو الموافقة.