خطبة الجمعة بعنوان ( لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ… فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ ) للدكتور أحمد سليمان أبوشعيشع

خطبة الجمعة بعنوان ( لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ… فَإِنَّ الرِّفْقَ مَا كَانَ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ )
المفكر الاسلامى : د.أحمد سليمان أبوشعيشع

لتحميل الخطبة pdf اضغط أدناه

alrefq ed alnabe11

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي هدى من شاء إلى سواء السبيل، وأظهر للقلوب المتجردة معالم الطريق إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، لا يُقصد سواه، ولا يُبتغى القرب إلا منه، هو الحق، ومن عنده الحق، وفي الوصول إليه كمال النفس وسعادتها، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، نبراسُ الزاهدين، وقدوة المتقين، المبعوث رحمة للعالمين، صلى الله عليه وسلم صلاةً وسلامًا دائمين إلى يوم الدين.

أما بعد،
فيا أيها السالكون طريق الله، ويا من أقبلتم على الجمعة تطلبون نفحة من نفحات الرحمة، وتلتمسون من الله نظرة، اعلموا أن من آفات الطريق، وأمراض القلوب، وغرور النفوس، ما يُسمّى بالغلو، وهو مجاوزة الحد، والتشدّد فيما لم يُشدّد فيه رب العباد، والتكلف في الدين، والمبالغة التي تُخرج العمل عن روح العبودية الخالصة إلى صورة تعجُّب أو رياء أو مشقّة لا يرضاها الله.

قال الله جل جلاله:
*﴿ يَـٰٓأَهۡلَ ٱلۡكِتَٰبِ لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ ﴾*، وهذه الآية، وإن خُوطب بها أهل الكتاب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنحن مأمورون بأن لا نغلو، لا في معتقد ولا في عبادة، لا في حب ولا في كره، لا في دين ولا في دنيا. وقال الحبيب ﷺ:
*”إيّاكم والغلوّ، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلوّ”*، فالغلوّ هلاك، والمغالاة مهلكة، والتوسط نجاة، كما قال ﷺ: *”خير الأمور أوسطها”*.

والغلوّ في حقيقته مظهر من مظاهر قلة الفقه في الدين، وضعف في معرفة مراد الله، ونقص في العلم، وغرور في النفس، واستبداد في الرأي. إن الغلوّ ينشأ حين لا يعرف الإنسان مقام نفسه، ولا يعرف حقيقة الربّ الذي يعبد، ولا يتذوّق معنى القرب ولا يفهم سرّ العبادة، فيظن أن الدين شدّة، وأن القرب إلى الله لا يتحقق إلا بمشقة فوق المشقة، وبعبادات خارجة عن روح التوازن، فينتهي به الحال إلى التطرّف في الفتوى، أو القسوة في المعاملة، أو الغرور في التعبد، أو العُجب بما يفعل، ووالله إن هذه المهالك *أقرب إلى الشرك الخفي منها إلى طاعة المحب الصادق*.

وإن من أعجب ما يكون، أن أول من غلا في نفسه، وتكبّر على أمر الله، هو إبليس، لم يكن كفره بإنكار أمر الله، بل كان كفره *غلوًّا في نفسه*، قال:
*﴿ أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ ﴾*، ولم يكن خيرًا، بل هلك بما رأى في نفسه من نور دون نور الأمر، ورأى عبادته فوق التكليف، فغوى. فالغلوّ في النفس، أن ترى نفسك شيئًا، وأنت لا شيء، أن ترى عبادتك سببًا، ونفسك أعلى، وأن ترى الناس دونك، وأنت أولى، وهذا الغلوّ هو باب الكبر، وأساس الحسد، ومفتاح التحقير، ومصيدة إبليس.

والنفسُ متى تُركت بلا تزكية، غَلَت، واستعلت، وظنّت أنها تستحق، وأرادت أن تُعلّي نفسها على غيرها، حتى في طريق الله، فتقول في سرّها: أنا أكثر منهم عملاً، وأسبق في الذكر، وأصفى في المجاهدة، فيا ليت شعري، من أين لك الأمن وأنت عبد؟ ومن أين لك المنّة وأنت محتاج؟ ومن أين لك العلوّ وأنت على باب من أبواب الرجاء؟
قال أحد العارفين: “من ظن أنه وصل فقد انقطع، ومن ظن أنه خير من غيره فقد ضلّ الطريق، فإن الطريق محوٌ، لا علوٌّ، وفقرٌ، لا فخرٌ، وتذللٌ، لا تبجح.”

ثم يأتي الغلوّ في حبّ الخلق، وهذا باب خفيّ من أبواب التعلّق، يُفتن فيه العابد كما يُفتن الغافل، يُحبّ أخًا أو شيخًا أو أبًا أو زوجةً حبًّا يعلو حبّ الله ورسوله، فيرضى من أجلهم ما لا يرضاه الدين، ويسخط لما يسعدهم، ويغضب لما يُغضبهم، ويأخذ من الدين ما يوافق رضاهم، ويترك ما يُغضبهم، حتى يكون هواه تبعًا لهواهم، لا لهدى الله، وهذا هو الشرك الخفيّ، *أن تُحبّ في موضع يطلب منك أن تُطيع، وأن تُقدّم المخلوق على الخالق في الحكم والولاء والطاعة*.

وقد قال تعالى:
*﴿ قُلۡ إِن كَانَ ءَابَآؤُكُمۡ وَأَبۡنَآؤُكُمۡ وَإِخۡوَٰنُكُمۡ وَأَزۡوَٰجُكُمۡ وَعَشِيرَتُكُمۡ… أَحَبَّ إِلَيۡكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَجِهَادٖ فِي سَبِيلِهِۦ فَتَرَبَّصُواْ ﴾*، هذا تهديد، لا لمجرّد المحبة الفطرية، بل للمحبة التي تُقدّم على محبة الله ورسوله.

إن العبد لا ينبغي أن يكون قلبه أسيرًا لحبّ غير الله، فمن أحبّ أحدًا فوق حبه لله ورسوله، فهو في غلوّ، ومن قدّم طاعة بشرٍ على أمر الله، فهو في ضلال. وهذا لا يعني أن نقطع رحمًا، أو نسيء إلى قريب، بل أن يكون الحب في الله، لا مع الله، أن يكون تبعًا لا أصلاً، وأن يكون تحت مظلة الطاعة لا فوقها.

ثم يأتي الغلوّ في الدين، وهو أشدها خطرًا، وهو أن يجعل الإنسان من الدين عسرًا، وأن يُحمّل نفسه أو غيره ما لا تحتمل، وأن يجعل كل خلاف ضلالة، وكل اجتهاد باطلاً، وأن يُنكر على الناس سعة الشرع، ويتشدّد فيما لم يتشدّد فيه رب العالمين، وهذا الذي نهى عنه النبي ﷺ أشد النهي، فقال:
*”هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ”*، أي المتعمّقون في غير موضع العمق، المتشدّدون بغير دليل، الغُلاة الذين يظنون أن الحق حكرٌ عليهم، وأن الصواب لا يعرف إلا طريقهم، فهؤلاء لا يسيرون إلى الله، بل إلى أنفسهم، ولا يعبدون الحق، بل يعكفون على صورة التدين، وقد فاتهم المقصود.

أيها السادة،
إن الدين يُسر، وإن الله لم يُنزّل الحرج، وإن النبي ﷺ كان يحبّ التيامن والتيسير، ويكره التعسير، وكان إذا خُيّر بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا، وكان يرد على من يغلون في الصوم والقيام بما فيه الرحمة، فقال:
*”إني لأخشاكم لله وأتقاكم، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء”*، فمن رغب عن سنّته فليس منه.

وما أكثر من غلوا في العبادة حتى شقّوا على أنفسهم، ثم انقطعوا، أو فتروا، أو ابتعدوا عن الناس، أو ازدروا من دونهم، فخسروا. ووالله، إن عبادة فيها رفق خير من تعبٍ يُفضي إلى العُجب، وإن دقيقة صدق في الذكر، خير من ليلٍ طويل يُقال فيه “نحن أهل القيام”، وما دُفع الناس عن الله كما دُفعوا بألسنة الغُلاة، ولا نَفروا كما نفروا من تشدد المتنطّعين.

إن من الناس من يظن أن الله لا يُرضى إلا بالكثرة، أو أن القبول لا يكون إلا بالمبالغة، ويغيب عنه أن الله ينظر إلى *النية، والخشية، والتواضع، والتجرّد، لا إلى الكثرة والهيئة والمظهر*، فكم من خاشع في الركعتين أحبّ إلى الله من مُطيلٍ لا يرى إلا نفسه، وكم من تائب باكٍ في سجدة، فاق من أتمّ القرآن ولم يفقه منه شيئًا.

فاتقوا الله يا عباد الله، وتذكّروا أن الرّفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه، وإن الدين لا يُحمَل بالقسوة، ولا تُبلّغ الرسالة بالعنف، ولا تُبنى القلوب بالحجارة، بل بالرحمة، والرفق، والاعتدال، والتواضع، وحسن الأدب.

اللهم طهّر قلوبنا من الغلو، وأنفُسَنا من العُجب، وألسنتنا من التشدد، واجعلنا هداةً مهتدين، لا ضالين ولا مضلين، اللهم ارزقنا الفقه في الدين، والفهم عنك، والرفق في أمورنا كلها.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

*الخطبة الثانية*

الحمد لله الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تُخرجنا من ظلمة الجهل إلى نور الفقه والحكمة.

أما بعد،
فيا أيها السادة الأحباب، لا يخلو قلبٌ من ابتلاء بالغلوّ في شيء، فاحذر أن تُغالي في دنياك فتهلك، أو في رأيك فتتعصّب، أو في شيخك فتتعلّق، أو في نفسك فتعجب، أو في الدين فتُضيّق ما وسّع الله، فكل غلوّ حجاب، وكل حجاب بعدٌ، وكل بعدٍ حرمان.

لكن اعلموا أن من الغلوّ ما يُحمد، إن كان في *الصدق والإخلاص والرجاء والتوبة والخدمة ومحبة الله ورسوله، فقد قال أحد الصالحين: *”إن بالغتَ في حب الله فأنت مأجور، وإن بالغت في التوبة فأنت محمود، وإن بالغت في الخدمة فأنت محبوب، ولكن لا تبالغ في غير ذلك فتُفتن.”

فمن زاد في محبة الله، حتى صار لا ينام إلا على ذكره، ولا يصحو إلا برجاء وجهه، فهذا غلوٌّ محبوب، ومن عظّم السنّة، فتمسّك بها تمسّك الغريق بالنجاة، فهذا خير، ومن خاف على قلبه، فحاسب نفسه أكثر من حساب الوزير لماله، فهذا قرب، ومن رقّ قلبه حتى صار يبكي من ذكر الله، فهذا مقام، لا يُذمّ.

فاللهم اجعلنا ممن رقّ دينه فاستقام، لا من تشدّد فيه فاغترّ، واجعلنا ممن عظّم هدي نبيك ﷺ واتبع أثره، لا من ابتدع وشقّ على الناس، ولا من فرّط فتبع الهوى.

اللهم إنا نسألك التوسط في الأمور، والاعتدال في الطاعة، والتجرد في النية، والسير إليك بقلوب سليمة، لا ترى إلا وجهك، ولا تطلب إلا رضاك، ولا تفرح إلا بك، ولا تحب فوقك أحدًا، يا الله.

وصلّ اللهم وسلّم على سيدنا محمد، النبيّ الرؤوف الرحيم، وعلى آله وصحبه الطيبين، ومن سار على دربه بإحسان إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.