( خلق الرفق عند النبي معلما ومربيا ) للشيخ رضا الصعيدى

( خلق الرفق عند النبي معلما ومربيا ) للشيخ رضا الصعيدى

للتحميل بصيغةpdf اضغط أدناه
alrefq ed alnabe

 

قال تعالى﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿104﴾ آل عمران.

وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله r قال: ﴿مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ﴾ ﴿[1].

وعمدة التغيير هو اللطف والرفق .

إطلاق اسم المعلم على نبينا ﷺ:

أثبتَتِ السُّنة النبوية الشريفة هذه الصفةَ والمهمَّة العظيمة مَهمَّة التعليم في رسول الله ﷺ، ومِن ذلك خرج يومًا على أصحابِه فوجدهم يقرؤون القرآن ويتعلَّمون، فكان مما قال لهم:”وإنما بُعِثت مُعلمًا”(ابن ماجه)،يقول معاوية بن الحَكَم: “ما رأيت معلِّمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه”(مسلم)، وفي رواية أبي داود:”فما رأيت معلمًا قط أرفق مِن رسول الله ﷺ”(أبوداود).

وقال ﷺ:”إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنتًا، ولكن بعثني معلمًا وميسِّرًا”(مسلم).

 ولا عجب إذاً حينما نري النبي الكريم صلي الله عليه وسلم يفضل طلب العلم ويحث دائماً عليه,بل ويجعله أفضل من صلاة النافلة , عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو؛أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ .فَقَالَ:”كِلاَهُمَا عَلَى خَيْرٍ،وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ،أَمَّا هَؤُلاَءِ،فَيَدْعُونَ اللهَ،وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ،فَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُمْ ، وَإِنْ شَاءَمَنَعَهُمْ،وَأَمَّاهَؤُلاَءِ،فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَالْعِلْمَ،وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ،فَهُمْ أَفْضَلُ ،وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا.قَالَ:ثُمَّ جَلَسَ فِيهِمْ”(الدارمي وابن ماجة).

النبي ﷺ أعظم معلم ومربي :

لا يوجد أيُّ معلِّم أو مربٍّ في التاريخ تخرَّج على يديه عددٌ أوفر وأهدى من رسولنا الكريم ﷺ، لقد تخرج على يديه عدد غفير مِن الأصحاب والأتباع، في فترة وجيزةٍ من الزمن خصوصًا إذا تساءلنا كيف كانوا قبله؟ وكيف أصبحوا بعده؟ فإنه قد سَلَك بهم ـ ﷺ ـ مسلكَ التعليم الجَماعي المستَنْفَر ، ودَفَعَهُم إلى محْوِ العاميّةِ دَفْعاً ، وحَضَّهم على ذلك ونَدَبَهم إليه ، وحذَّرهم من الفُتور فيه تحذيراً شديداً . لدرجة أنه أمر الجار المتعلم أن يمحو أمية جاره, ويعلمه كما تعلم هو ,وجعل ذلك من حقوق الجيران فقال:”واللهِ ليُعلِّمَنَّ قومٌ جيرانهم،ويُفقِّهونهم،ويُفطِّنونهم، ويأمُرونهم،وينهونهم.وليتعلَّمنَّ قومٌ من جيرانهم،ويتفقَّهون، ويتفطَّنون،أولأُعاجِلَنَّهم  العقوبةفي الدنيا”(الطبراني وكنز العمال).

شهادة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم  :

قال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } التوبة- { مِنْ أَنْفُسِكُمْ } أي: منكم وبلغتكم ، { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي: يعز عليه الشيء الذي يَعْنَتُ أمته ويشق عليها، { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي: على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ([2]).

وكيف لا يكون رحيما بأمته وقد وصفه ربنا سبحانه وتعالى فقال سبحانه  : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .. قال القرطبي في تفسيره : قال الحسين بن الفضل : لم يجمع الله لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي محمد صلى الله عليه وسلم ; فإنه قال : بالمؤمنين رءوف رحيم وقال : إن الله بالناس لرءوف رحيم..

قوله: «بالمؤمنين رءوف رحيم» أى: شديد الرأفة والرحمة بكم أيها المؤمنون والرأفة عبارة عن السعى في إزالة الضرر، والرحمة عبارة عن السعى في إيصال النفع، فهو ﷺ يسعى بشدة في إيصال الخير والنفع للمؤمنين، وفي إزالة كل مكروه عنهم.قال بعضهم: لم يجمع الله تعالى لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا للنبي ﷺ فإنه قال «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ» وقال عن ذاته سبحانه:إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) البقرة… التفسيرالوسيط لطنطاوى (6/433).

مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ:

عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ([3]) (نيل منه) أي أصيب بأذى من قول أو فعل (إلا أن ينتهك) استثناء منقطع معناه لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر لله تعالى وانتقم ممن ارتكب ذلك وانتهاك حرمته تعالى هو ارتكاب ما حرمه.

وعن أنسٍ  قَالَ: إِنْ كَانَتِ الأَمَةُ مِن إِمَاءِ المَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ النبيِّ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيثُ شَاءَتْ. رواه البخاري.

رفق النبي بأهل بيته  :

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً» قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: «لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: «فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟» قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: «أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟» قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ، قَالَ: ” فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ “، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ ” قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ ” ([4])

(إلا ريثما) معناه إلا قدر ما (أخذ رداءه رويدا) أي قليلا لطيفا لئلا ينبهها (ثم أجافه) أي أغلقه وإنما فعل ذلك ﷺ في خفية لئلا يوقظها ويخرج عنها فربما لحقتها وحشة في انفرادها في ظلمة الليل (فجعلت درعي في رأسي) درع المرأة قميصها (واختمرت) أي ألقيت على رأسي الخمار وهو ما تستر به المرأة رأسها (وتقنعت إزاري) هكذا هو في الأصول إزاري بغير باء في أوله وكأنه بمعنى لبست إزاري فلهذا عدى بنفسه (فأحضر فأحضرت) الإحضار العدو أي فعدا فعدوت فهو فوق الهرولة (ما لك يا عائش حشيا رابية) يجوز في عائش فتح الشين وضمها وهما وجهان جاريان في كل المرخمات وحشيا معناه قد وقع عليك الحشا وهو الربو والتهيج الذي يعرض للمسرع في مشيه والمحتد في كلامه من ارتفاع النفس وتواتره يقال امرأة حشياء وحشية ورجل حشيان وحشش قيل أصله من أصاب الربو حشاه رابية أي مرتفعة البطن (فأنت السواد) أي الشخص (فلهدني) قال أهل اللغة لهده ولهده بتخفيف الهاء وتشديدها أي دفعه.

فانظر كيف تعامل النبي ﷺ معها فلم يعنفها، ولم يرفع صوته عليها مع انها هي المخطئة ولكنه فوق هذا بين لها سبب خروجه، ولم يتركها دون معرفته.

وفي رواية عَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، حَدَّثَهُ أَنَّ عُرْوَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ، حَدَّثَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا لَيْلًا، قَالَتْ: فَغِرْتُ عَلَيْهِ، فَجَاءَ فَرَأَى مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: «مَا لَكِ؟ يَا عَائِشَةُ أَغِرْتِ؟» فَقُلْتُ: وَمَا لِي لَا يَغَارُ مِثْلِي عَلَى مِثْلِكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَقَدْ جَاءَكِ شَيْطَانُكِ» قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَوْ مَعِيَ شَيْطَانٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَ كُلِّ إِنْسَانٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَمَعَكَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «نَعَمْ، وَلَكِنْ رَبِّي أَعَانَنِي عَلَيْهِ حَتَّى أَسْلَمَ»([5]) ، فلم يجعل هذا الأمر مشكلة كبيرة ويلومها على غيرتها ويعنفها وانما عالج الأمر بلطف، وانتهت المشكلة .

حكم بالعدل :

عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ، فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيْتِهَا يَدَ الخَادِمِ، فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ ﷺ فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ، وَيَقُولُ: «غَارَتْ أُمُّكُمْ» ثُمَّ حَبَسَ الخَادِمَ حَتَّى أُتِيَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ المَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ) ([6]) (بصحفة) إناء كالقصعة المبسوطة. (فانفلقت) تكسرت. (فلق) قطع جمع فلقة.

ولقد قضى ﷺ ما عليه، وبلَّغ ما عُهد إليه، نعم كان صلوات ربي وسلامُه عليه يعلِّم الناس في جميع أحواله، في مسجدِه، وفي حِلِّه وتَرْحاله، وفي بيته، فكان بيتُهُ ﷺ مدرسة؛ ولهذا كان الصحابةُ إذا اختلفوا في أمرٍ، ذهبوا إلى بيوت النبي ﷺ يسألون زوجاتِهِ عن هَدْيِه وعَملِه في بيته.

═◄ وما مات ﷺ حتى علَّم الناسَ كُلَّ شيءٍ، عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: “لقد تركنا محمد ﷺ وما يحرِّك طائرٌ جناحيه في السماء إلا ذكر لنا عنه عِلمًا”؛ رواه أحمدُ في مسندهِ، وعن مسروقٍ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: “مَن حدَّثك أن محمدًا ﷺ كتم شيئًا من الوحي فقد كذِب”؛ أخرجه مسلم، ويقول العباس: “والله ما مات رسول الله ﷺ حتى ترك السبيل نهجًا واضحًا، وأحلَّ الحلال، وحرَّم الحرام، ونكح وطلَّق، وحارب وسالم”؛ رواه الدارمي، وقال بأبي هو وأمي ﷺ: ((تركتكم على بيضاءَ نقيةٍ، ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالكٌ))؛ أخرجه أحمد، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.

نَعَمْ عباد الله، لقد أفنى رسول الله ﷺ عُمُرَه كُلَّه في سبيل تبليغ رسالة ربه، وعلَّم أمته كلَّ شيءٍ حتى إن بعض المشركين قال لسلمانَ الفارسي: “إنا نرى صاحبكم يعلمكم كُلَّ شيءٍ حتى الخِراءَة”، قال سلمان: “نعم، لقد نهانا أنْ نستقبلَ القبلةَ بغائطٍ أو بولٍ، أو أن نستنجيَ برجيعِ دابةٍ أو عَظْمٍ”.

ومن الرفق حسن الاقتداء :

ويشهد لهذا قصة صلح الحديبية، فحين أمر النبي ﷺ الصحابة بأن يتحللوا من إحرامهم وينحروا هديهم فقال لهم: ” قوموا، فانحروا، ثم احلقوا ” فتوانوا في ذلك، فدخل على زوجه أم سلمة – رضي الله عنها- فأشارت عليه بأن يحلق رأسه، وينحر هديه، فإنهم لا محالة يقتدون به ففعل، فكان كما ذكرت.

وعن معاذ بن عبد الرحمن أن بن أبان أخبره قال: أتيت عثمان بن عفان بطهور وهو جالس على المقاعد، فتوضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: رأيت النبي ﷺ يتوضأ وهو في هذا المجلس، فأحسن الوضوء، ثم قال: ” من توضأ مثل هذا الوضوء، ثم أتى المسجد، فركع ركعتين، ثم جلس غفر له ما تقدم من ذنبه ” قال: وقال النبي ﷺ:” لا تغتروا “[البخاري].

يقول الجُلندي – رضي الله عنه – ملك عمان في سبب إسلامه: (لقد دلني على هذا النبي الأمي إنه لا يأمر بخير إلا كان أول آخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له وأنه يَغلِب فلا يبطر، ويُغلَب فلا يهجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الوعد، وأشهد أنه نبي) [ابن حجر:الإصابة ].

ومن الرفق الصبر على جهل الناس :

فكان ﷺ واسعَ الصدر في التعليم؛ لم يُعنِّف سائلًا قطُّ لسؤاله، ولا معترضًا قطُّ لاعتراضه؛ فقد كان يسأل ويناقش، ويُغلَّظ عليه أحيانًا في المسألة، وكل هذا وهو حليم واسع الصدر، وكان يأتيه الأعرابي الجاهل فيبولُ في المسجد، فيقع الصحابة به، فيقول لهم: ((لا تُزرِموه، دَعوه حتى يُتمَّ بولَه)) فتركه ليكمل بوله في المسجد، ثم يُعلِّمه أن هذا لا يجوز؛ لأن المسجدَ مكانٌ وضع لعبادة الله والصلاة.

يقولُ عمرُ بن أبي سَلَمَةَ رضي الله عنه: “كنتُ غلامًا في حِجَر رسول الله ﷺ، وكانت يدي تَطيشُ في الصَحْفَةِ، فقال لي رسول الله ﷺ: ((يا غلام، سمِّ الله، وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك))”؛ متفق عليه.

وكان رسول الله ﷺ يمشي ومعه الحسنُ بنُ عليٍّ، فوجدَ تمرةً فأخذها الحسنُ، فقال ﷺ: ((كِخ كِخ، أما علِمتَ أنَّا لا تحلُّ لنا الصدقة))؛ متفق عليه.

وعن معاويةَ بن الحكم السُلمي رضي الله عنه قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله ﷺ إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أُميّاه! ما شأنكم؟ تنظرون إليَّ، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتُهم يصمِّتونني، لكني سكت، فلما صلى رسول الله ﷺ فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسنَ تعليماً منه، فو الله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني، قال: «إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير، وقراءة القرآن»(مسلم). فتأمل يا أُخي هذا الأسلوب من نبينا المصطفى المعلم الأول ﷺ، فرغم أنَّ هذا الخطأ كان خطأ كبيراً لأنه من مبطلات الصلاة التي هي عماد الدين، إلا أنه لم يعنف صاحبه، ولم يوبخه، إنما علَّمه برفق ولين وأسلوب حسن.

روى البخاري في صحيحه أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ – رضى الله عنه – قَالَ بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ – ﷺ – إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكْتُ . قَالَ « مَا لَكَ » . قَالَ وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – ﷺ – « هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا » . قَالَ لاَ . قَالَ « فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» . قَالَ لاَ . فَقَالَ « فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا » . قَالَ لاَ . قَالَ فَمَكَثَ النَّبِيُّ – ﷺ – ، فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِىَ النَّبِيُّ – ﷺ – بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ – وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ – قَالَ « أَيْنَ السَّائِلُ» . فَقَالَ أَنَا . قَالَ « خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ » . فَقَالَ الرَّجُلُ أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا – يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ – أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ – ﷺ – حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ ثُمَّ قَالَ « أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ

وهذا هو أنس بن مالك خادم رسول الله ﷺ يقول كما في صحيح مسلم

قَالَ أَنَسٌ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ فَقُلْتُ وَاللَّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِى نَفْسِى أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ -ﷺ- فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -ﷺ- قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي – قَالَ – فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ فَقَالَ « يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ». قَالَ قُلْتُ نَعَمْ أَنَا أَذْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.) . قال أنس: والله لقد خدمته سبع سنين أو تسع سنين، ما علمتُ قال لشيء صنعت: لمَ فعلت كذا وكذا، ولا لشيء تركت: هلاَّ فعلت كذا وكذا”

إنَّ اللهَ لَمَّا أرادَ هُدَى زيدِ بنِ سَعْنةَ، قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: ما مِن علاماتِ النُّبُوَّةِ شيْءٌ إلَّا وقدْ عرَفْتُها في وجْهِ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ نظرْتُ إليهِ، إلَّا اثنتيْنِ لم أَخْبُرْهُما منهُ: يَسبِقُ حِلْمُهُ جهلَهُ، ولا تَزيدُهُ شِدَّةُ الجهلِ عليه إلَّا حِلْمًا، فكنتُ أتلطَّفُ له لِأنْ أُخالِطَه فأَعرِفَ حلْمَهُ مِن جهلِهِ، قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: فخرَجَ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم يومًا مِنَ الحُجُراتِ، ومعه عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه، فأتاهُ رجُلٌ على راحلتِهِ كالبدويِّ، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ بُصْرَى قريةَ بني فلانٍ قد أسلَمُوا ودخلُوا في الإسلامِ، وكنتُ حدَّثْتُهم إنْ أسلَمُوا أتاهُمُ الرِّزقُ رَغَدًا، وقدْ أصابتْهُم سَنَةٌ وشِدَّةٌ وقُحُوطٌ مِنَ الغَيْثِ، فأنا أخشَى يا رسولَ اللهِ أنْ يَخرُجوا مِنَ الإسلامِ طمَعًا، كما دخلُوا فيه طمَعًا، فإِنْ رأيْتَ أَنْ تُرسِلَ إليهم بشيء تُعينُهمْ بهِ فعلْتَ، فنظرَ إلى رجُلٍ إلى جانبِه – أراهُ عليًّا رضي الله عنه -، فقال: يا رسولَ اللهِ، ما بَقِيَ منهُ شيْءٌ، قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: فدَنوْتُ إليه، فقلتُ: يا محمَّدُ، هلْ لكَ أنْ تَبيعَني تمرًا معلومًا مِن حائطِ بني فلانٍ إلى أجَلِ كذا وكذا؟ فقال: لا يا يهوديُّ، ولكنِّي أَبيعُكَ تمرًا معلومًا إلى أجَلِ كذا وكذا، ولا تُسَمِّ حائطَ بني فلانٍ، قلت: بلى، فبايَعني، فأطلقْتُ هِمْياني فأعطيْتُهُ ثمانينَ مِثقالًا مِن ذهبٍ في تمرٍ معلومٍ إلى أجَلِ كذا وكذا، فأعطاها الرَّجُلَ، فقال: اغْدُ عليهِمْ فأَعِنْهُمْ بها، قال زيدُ بنُ سَعْنةَ: فلمَّا كان قبْلَ مَحَلِّ الأجَلِ بيوميْنِ أوْ ثلاثةٍ أتيْتُهُ، فأخذْتُ بمجامعِ قميصِهِ وردائِهِ، ونظرتُ إليهِ بوجهٍ غليظٍ، فقلتُ لهُ: ألَا تقضِيني يا محمَّدُ حقِّي؟ فواللهِ ما علمْتُكُم بَني عبدِ المُطَّلِبِ لَمُطْلٌ، ولقد كان لي بمُخالطتِكُم عِلْمٌ، ونظرتُ إلى عُمرَ، وإذا عيناهُ تَدورانِ في وجهه كالفَلكِ المُستديرِ، ثمَّ رماني ببصرِهِ، فقال: يا عدوَّ اللهِ، أتقولُ لرسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ما أسمعُ؟! وتصنعُ به ما أرَى؟! فوالَّذي بعثَهُ بالحقِّ لولا ما أُحاذِرُ فَوْتَهُ لضربتُ بسيفي رأسَكَ، ورسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ينظرُ إلى عُمرَ في سكونٍ وتُؤَدَةٍ، ثمَّ قال: يا عُمرُ، أنا وهو كنَّا أحوجَ إلى غير هذا؛ أنْ تأمرَني بحُسنِ الأداءِ، وتأمُرَهُ بحُسنِ اتِّباعِهِ، اذهَبْ بهِ يا عُمرُ، وأَعْطهِ حقَّهُ، وزِدْهُ عشرينَ صاعًا مِن تمرٍ مكانَ ما رُعْتَهُ، قال زيدٌ: فذهب بي عُمرُ رضي الله عنه، فأعطاني حقِّي، وزادني عشرينَ صاعًا مِن تمرٍ، فقلتُ: ما هذه الزيادةُ يا عُمرُ؟ فقال: أمرَني رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم أنْ أَزيدكَ مكانَ ما رُعْتُكَ، قلتُ: وتَعرِفُني يا عُمرُ؟ قال: لا، مَن أنتَ؟ قلتُ: أنا زَيدُ بنُ سَعْنةَ، قال: الحَبْرُ؟ قلت: الحَبْرُ، قال: فما دعاك أنْ فعلْتَ برسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم ما فعلْتَ، وقلْتَ له ما قلْتَ؟ قلتُ: يا عُمرُ، لم تكنْ مِن علاماتِ النُّبُوَّةِ شيْءٌ إلَّا وقدْ عرفْتُهُ في وجْهِ رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم حينَ نظرْتُ إليه، إلا اثنتيْنِ لم أَخْبُرْهُما منهُ: يَسبِقُ حِلْمُهُ جهلَهُ، ولا تَزيدُهُ شِدَّةُ الجهلِ عليه إلا حِلْمًا، فقد خَبَرْتُهما، فأُشهِدُكَ يا عُمرُ أنِّي رَضيتُ باللهِ ربًّا، وبالإسلامِ دِينًا، وبمحمَّدٍ نبيًّا، وأُشهِدُكَ أنَّ شَطْرَ مالي – وإنِّي أكثرُها مالًا- صدقةٌ على أُمَّةِ محمَّدٍ، فقال عُمرُ رضي الله عنه: أوْ علَى بعضِهِمْ؛ فإنَّكَ لا تَسَعُهُم، قلتُ: أوْ على بعضِهِم، فرَجَعَ عُمرُ وزيدٌ إلى رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فقال زيدٌ: أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُهُ ورسولُهُ صلَّى الله عليه وسلَّم، وآمَنَ بهِ، وصدَّقهُ، وبايَعهُ، وشَهِدَ معهُ مشاهِدَ كثيرةً، ثمَّ تُوُفِّيَ زيدٌ في غزوةِ تَبُوكَ مُقْبلًا غيرَ مُدْبِرٍ، رَحِمَ اللهُ زيدًا… الدرجة: لا يصح

قال تعالى : فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) _ من سورة طه ..

والمواقف كثيرة في بحث ( حسن عشرته صلى الله عليه وسلم  ، وبحث تواضعه )  ..

 ومن الرفق أن يستخدم أسلوب المحاورة والإقناع العقلي:

جاء في سنن الترمذي عن عمران بن حصين قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي: يا حصين؛ كم تعبد اليوم إلها؟ قال أبي: سبعة، ستة في الأرض، وواحداً في السماء، قال: فأيهم تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء، قال: يا حصين؛ أما إنك لو أسلمت علمتك كلمتين تنفعانك، قال: فلما أسلم حصين قال: يا رسول الله علمني الكلمتين اللتين وعدتني، فقال: قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي. وهذا الحديث ضعفه الألباني.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: إنَّ فتى شاباً أتى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله إئذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال ادنه، فدنا منه قريباً، قال: فجلس، قال: «أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لبناتهم، قال: أفتحبه لأختك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأخواتهم، قال:أفتحبه لعمتك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لعماتهم، قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لخالاتهم، قال: فوضع يده عليه وقال: اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»(أخرجه أحمد وصحح سنده الألباني).ففي هذا الحديث نلمس عظمة الرسول ﷺ المعلم الأول والمربِّي الأمثل، وحسن تعليمه وتأمله مع هذا الشاب، فلم يزجره ولم يقل له إن الله حرم الزنا ورتب على ذلك وعيدا شديدا، لأن هذه الأمور معلومة لدى الشاب، فهو ليس بجاهل، فكانت الوسيلة المناسبة له الإقناع العقلي والحوار الهادئ من قلب مفعم بالرحمة والرأفة والشفقة.

فأيُّ معلمٍ كان.. بل أيُّ إنسانٍ..

أيُّ إيمانٍ.. وأيُّ عزمٍ.. وأيُّ مضاء

أيُّ خلقٍ.. وأيُّ أسلوبٍ.. وأيُّ عطاء

بشارة لمن يتخذ رسول الله قدوة:

هذه بشارة لمن يتبع الحبيب صلي الله عليه وسلم، ولمن يتخذه قدوة، يقول رب العزة في محكم كتابه: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [الإسراء: 71].

أي أنك يوم القيامة تدعى خلف مثلك الأعلى، فإن كان هو سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم؛ فإنك ستجد نفسك في الصف وراءه، وتدخل من باب أمة محمد صلي الله عليه وسلم، الذي يقول فيه الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم: “بَابُ أُمَّتِي الَّذِي يَدْخُلُونَ مِنْهُ الْجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِبِ الْمُجَوِّدِ ثَلَاثًا، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَيُضْغَطُونَ عَلَيْهِ حَتَّى تَكَادُ مَنَاكِبُهُمْ تَزُولُ” [أخرجه الترمذي في كِتَاب صِفَةِ الْجَنَّةِ، بَاب مَا جَاءَ فِي صِفَةِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ  4/590 [2548].].

وبشارة أخرى كريمة يخبرنا بها الحبيب المصطفى صلي الله عليه وسلم، عندما جاءه رَجُلٌ إِلَيه صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله كَيْفَ تَقُولُ فِي رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْمًا وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِمْ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله صلي الله عليه وسلم: “الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ” [أخرجه البخاري عن ابن مسعود في كِتَاب الأدب، بَاب عَلَامَةِ حُبِّ الله عَزَّ وَجَلَّ10/577 [6169].].

وعَنْ أنس بن مالك رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ الله صلي الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَتَى السَّاعَةُ؟ قَالَ: “وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ؟” قَالَ: حُبَّ الله وَرَسُولِهِ. قَالَ: “فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ” ، قال جل وعلا: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب : 21].

ويكفيك من ذلك شهادة رب العالمين فيه إذ يقول : (وإنك لعلى خلق عظيم) ، ويقول النبي عن نفسه (أدبني ربي فأحسن تأديبي) ، وفي ذلك قول عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها حين سئلت: كيف كان خلق رسول الله فقالت”كان خلقه القرءان” أي كل خصلة خير في القرءان هي في رسول الله ﷺ .

وقالت عائشة رضي الله عنها في وصف خلقه أيضاً:”لم يكن رسول الله فاحشاً ولا متفحشاً ولا يجزي السيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح وقالت: ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى .. وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه إثم، وذلك رحمةً بأمته لأنّها ستقتدي به من بعده، وكان يكره ما يشقّ على المسلمين ويُتعبهم كأن المشقة واقعة عليه ، كما قال الله تعالى : (لَقَد جاءَكُم رَسولٌ مِن أَنفُسِكُم عَزيزٌ عَلَيهِ ما عَنِتُّم حَريصٌ عَلَيكُم بِالمُؤمِنينَ رَءوفٌ رَحيمٌ)،[ سورة التوبة، آية: 128 ] . وقال ابن عمر: ما رأيت أشجع ولا أبحر ولا أجود ولا أرضى من رسول الله ﷺ .

حسن عشرته ﷺ : كان رسول الله ﷺ أحسن الناس عشرة وأوسع الناس صدراً وأصدقهم لهجة وقد وصفه بعض أصحاب قائلا كان دائم البشر سهل الخلق لين الجانب ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب

قال الله تعالى { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } وكان يجيب من دعاه ، ويقبل الهدية ، قال أنس رضي الله عنه : خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين فما قال لي “أف” قط وما قال لشيء صنعته لم صنعته ولا لشيء تركته لم تركته

وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه : “ما حجبني رسول الله ﷺ قط منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم. ..

الواجب علينا :

1-وجوب الاقتداء به صلوات الله عليه :

فهو القائل : عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ؛ وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ؛ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ” ( أبو داود والترمذي وصححه).

2-ضروة التحلي بخلق الرفق:

لقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم على من يشق على المسلمين فقال:

 ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئًا فرفق بهم، فارفق به  )) – المصدر : صحيح الجامع..

وقد وردت أحاديث كثيرة في الحث على الرفق منها: “من يحرم الرفق، يحرم الخير”[أخرجه مسلم]… وقال : ” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه”[أخرجه مسلم].. وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه”[أخرجه مسلم] والرفق: هو اللطف واللين وهما من نتاج الرحمة.

الرفقُ وفقكم الله، حِكمةٌ ورحمة، تعقُّلٌ وتفضُّل، أناةٌ ورشدٌ، ودفعٌ بالتي هي أحسن، وإيثارٌ للعواقِب الحمِيدة.. قال جلَّ وعلا: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]، وفي الحديث: “يا عائشة، ارفقِي؛ فإن الله إذا أرادَ بأهلِ بيتٍ خيرًا دَلَّهُم على باب الرِّفق”… وجاءَ في صحيح مُسلم قال صلى الله عليه وسلم: «يدخُلُ الجنةَ أقوامٌ أفئدتهم مثل أفئدة الطير»… انظر بحث نبي اليسر .

3-طلب رحمة الله في رحمة عباد الله :

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم  قال: ” الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، الرَّحِمُ ‏شُجْنَةٌ ‏‏مِنْ الرَّحْمَنِ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعَهُ اللَّهُ” (البخاري).

4-واجب المسلم  التيسير على أخيه :

1-لان التيسير دافع للالفة :

يقول النبي (صلى الله عليه وسلم): “المُؤمِنُ يألَفُ ويُؤلَفُ ولا خيرَ فيمَنْ لا يألَفُ ولا يُؤلَفُ”

2-ولأن التيسير رحمه :

عن أبِي بَكر الصدِّيق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “قال الله عز وجل: إن كنتم تُريدون رحمتي فارحَموا خَلقي” ، رواه أحمد بن عُدَيّ في كتابه “الكامل”.

قلتُ وروى الترمذي عن جرير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لا يَرحم النَّاس لا يَرحَمه الله” ، قال أبو عيسى: هذا الحديث حسنٌ صحيح.

([1]) صحيح مسلم
([2]) تفسير ابن كثير
[3])) صحيح مسلم
[4])) صحيح مسلم
[5])) صحيح مسلم
[6])) صحيح البخاري