حين يهان العلماء… تسقط هيبة الأمة
4 أغسطس، 2025
العلم والعلماء

بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو
( الأزهرى البابي الحلبي )
كما بقي الأطباء يؤدون مهمتهم الإنسانية، وكذلك كل أصحاب التخصصات في مواقعهم، بقي العلماء أطباء القلوب والأرواح في أرض الرباط، فكان الواجب تكريمهم لا اتهامهم، وشكرهم لا التشهير بهم.
فإهانة العلماء خيانة للعلم، وسقوطٌ للقيم، وتمكينٌ للجهالة التي أرادها الأعداء.
إن أعجب العجب أن ترى أهل العلم، الذين ذاقوا مرارة الظلم، وذاقوا لذع التهجير، وخرجوا من ديارهم وأوطانهم في بدايات الثورة، قد صاروا اليوم يفتحون الباب لهوانٍ لم يكن لهم به عهد، فيُؤيِّدون العامة على طلاب العلم الآخرين الذين آثروا البقاء في مساجدهم، أو يطلقون عليهم التهم إطلاقاً، لا على بينة ولا برهان، ولكن لمجرد هوى في النفس، أو حسد قديم، أو شقاق في الرأي السياسي!
ويا ليتهم علموا أن البقاء في أرضهم، وإن كان محفوفًا بالمكاره، قد حمل في طياته مصلحة شرعية كبرى: أن لا تُفرَّغ المساجد من أهل العلم، فتغدو نهبًا للجهال وحديثي الأسنان.
ثم تأتيك مديريات الأوقاف بخطط ظاهرها التنظيم وباطنها الإقصاء، فيُنقل الأئمة، ويُعزل الخطباء، ويُستبدل بهم من لا يزن عند العلم وزن شعيرة، وكل ذلك تحت شعارات برّاقة، وألفاظ مخادعة! فإذا انضم إلى ذلك صوت الوزير، الذي كنا نرجو فيه الخير، يطلق الاتهامات في الهواء، ويفتح الباب لكل غوغائي ومتحمس أعمى ليهاجم العلماء، بدعوى أنهم ما شاركوا في الثورة أو لم يحملوا السلاح، فاعلم أن البلاء قد بلغ مداه.
أيحسب هؤلاء أن طالب العلم إنما هو جندي في ثكنة، يأتمر بأمر الضباط، أو ممثل على خشبة مسرح، يصفق خلف الممثلين والعلمانيين؟ كلا، إنما طالب العلم قائد لا مقود، ورائد لا تابع، ومتى صار العلماء جنودًا على أبواب الساسة أو أدوات في أيدي الحزبيين، فقد ضاعت هيبة العلم، وسقطت عمامة الدين!
ألم يكفهم عبرة أن الشيخ معاذ الخطيب، وهو من هو في علمه ومكانته، لما أمسك زمام القيادة، لم يرق فكره لأحد، فأقصوه حتى اضطر إلى الاستقالة؟ فماذا يرجو غيره من القوم؟
وحين يستهين أهل العلم بطلابهم، ويظنون أن السكوت ضعف، أو أن الثبات في مكان الفتنة جريمة، فهم بذلك يفتحون الباب للجهال أن يطأوا حمى العلماء، وأن يمدوا ألسنتهم بالسوء إلى من لم يعرفوا لهم قدرًا، ولم يفقهوا لهم علمًا. وهكذا يتساوى في أعين الناس المظلوم بالظالم، والبريء بالجاني، ولا يعلم حقيقة ما احتملوه في صمت إلا الله.
الذين هاجروا قد سلموا بأنفسهم من الأذى والمطاردة، ولكن الذين بقوا صابرين، يواسون الناس في شدتهم، ويعلِّمونهم أمر دينهم في مساجدهم، ويحملون عنهم ثقل الفقر والحصار، هؤلاء يُقصَون ويُهانون، ويُسلط عليهم من لا يساوي عند المروءة جناح بعوضة، ممن تسموا باسم الثورة واتخذوها تجارة، وجعلوا الدين مطية لجمع المال، وأهل المخيمات جوعى عراة يرتجفون من البرد!
ثم يأتيك السفهاء فيتهمون هذا الشيخ المربي، الذي صبر وصمد، بأنه مداهن أو منافق أو من أتباع النظام، وما عرفوا له موقفًا، ولا شهدوا له صبرًا، ولا رأوا ما قاسى في صمت. ولو كان فيهم صدق، فليجربوا ما جرب، وليقفوا أمام جندي حقير كما وقف، لا وهم في دفء الغرف المذهبة، وبين المتاع والمكاسب!
إننا اليوم بإزاء خطة شيطانية، هُدمت بها هيبة العمائم، وأُهينت لحى الصالحين، وصار يُنظر إلى العالم كما يُنظر إلى الجاهل، وكلاهما في الميزان سواء! وهذه – والله – غاية ما أراده الأعداء، وقد بلغوه. وللأسف، صار نشر الفكر الوهابي بيننا يسير كما يُخطط له، تحت بصر من يظنون أنهم حماة الدين.
فإن كان السيد الوزير والمفتي المحترم يهمهم أمر الدين وأهله، فليفتحوا باب التحقيق لا في أوراق الدواوين، ولكن في قلوب الناس، وليأتوا إلى حلب، فينظروا كيف صار الناس يأنفون دخول المساجد، ويمنعون أبناءهم من دروس العلم! أيرضيهم هذا؟ أهذه هي ثمرة الثورة؟ أهذا هو الإصلاح الذي وعدوا به؟ أم هو البلاء الذي صنعوه بأيديهم؟!
ذلكم هو الداء، والدواء أن تعود للأمة هيبة علمائها، قبل أن يصبح المسجد سوقًا، والمنبر مسرحًا، والعلم سلعة في يد كل مزيف ومتكسب!