العالم قائد لا سجين محرابه
6 أغسطس، 2025
العلم والعلماء

بقلم الدكتور الشيخ : محمد سعيد صبحي السلمو
( الأزهرى البابي الحلبي )
لقد صوَّر الإعلام الفاسد للناس صورة الشيخ تصويرًا يُثير العجب والأسى… صوَّره رجلًا بسيطًا، لا يملك من أمره شيئًا، يكتفي بمسجده وزاويته، يلبس ثوبًا قديمًا، ويعيش على صدقات الناس، فإذا جلس في مجلس الزعماء جلس على استحياء، كأنه واحد من العامة، لا يُرفع له رأس ولا يُجعل له صدر المجلس.
ونسِي الناس – أو تناسوا – أن هذا الشيخ هو حامل أشرف العلوم، علمٍ موصولٍ بالسماء، وأنه يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم في أمته. فإذا لم يكن الإكرام لشخصه، فهو لعلمه، وإذا لم يكن التقدير لذاته، فهو لوظيفته التي بها تحفظ الأمة دينها وأخلاقها.
لقد حرص الإعلام – ومعه السياسة – على تثبيت هذه الصورة في العقول، حتى ظن الناس أن الشيخ لا ينبغي أن يكون إلا فقيرا ضعيفا، ساكتا عن حقه، خاشع الصوت، لين الجانب، يظن التواضع في الصمت عن الظلم، ويحسب الخشوع في الخنوع للمتطاولين.
وهكذا صار الشيخ الحلقة الأضعف في المجتمع، حتى هانت مكانته وسقطت هيبته، وصار الناس يظنون أن وظيفته لا تتجاوز الصلاة في المسجد وخطبة الجمعة.
ألم يكن سيدنا أبو بكر رضي الله عنه شديدًا حين اقتضى الأمر الشدة؟
ألم يكن سيدنا عمر رضي الله عنه صاحب الدرة؟
ألم يكن سيدنا عثمان رضي الله عنه مجددا ووقف بحزم أمام الحائرين والرافضين ؟
ألم يكن عليٌّ سيفًا مسلولًا للحق؟
هؤلاء كانوا أئمة التقى وسادة الأخلاق، ومع ذلك ما هانوا يومًا، ولا خضعوا لظالم.
إننا اليوم في حاجة إلى إعادة بناء هذه الهيبة، وإحياء تلك الشخصية القيادية للعلماء، ليتكلموا بقوة، ويقفوا في وجه الباطل، وليعلموا أن السكوت عن السفهاء ضعف لا تواضع، وخنوع لا خلق.
نحن في حاجة إلى عالم يقود الأمة، كما كان الغزالي يوم أطفأ الفتنة بكلمة، وكما كان العز بن عبد السلام يوم وقف في وجه الملوك، وكما كان الشيخ محمد النبهان رضي الله عنه يوم خرجت حلب كلها تهتف معه نصرة للحق.
العالم الحق ليس ذلك الخاشع الباكي وحده، بل هو القوي المغوار، الذي إذا جلس في محراب العبادة خشع، وإذا وقف في محراب القيادة اشتد وصلب.
فلْتعد إلينا تلك النماذج العظيمة، ولْتقم فينا هيبة العلم من جديد، حتى لا تظل الأمة غنمًا بلا راعٍ، ولا جيشًا بلا قائد.
و ما أكثر ما نرى اليوم من أولئك الذين يزين لهم العقل أن السكوت وقار، وأن العزلة حكمة، وأن البعد عن ميادين الصراع سلامة للدين والنفس! أولئك من العلماء الذين استكانوا، وأراحوا أنفسهم من عناء الكلمة، واكتفوا بالجلوس على الكراسي الوثيرة، يلقون الخطب التي لا تمس من الواقع إلا اسمه، ولا تحمل من روح العصر إلا هديره الخافت.
ولكن، الحق أقول، إن كل امرئ يستطيع أن يجاهد في ميدانه، وأن يرفع كلمة الحق في موضعها. إن القلم الصادق لا يقل أثرًا عن السيف البتار، بل ربما جاوزه وقعًا وأمضى أثرًا. فالعالم في حقيقته ليس هو من احتجب وراء المكاتب والمقامات، بل هو من نزل إلى واقع الناس، علَّم وربّى، وبحث وألّف، ووجّه وسدّد.
ابحثوا عن هؤلاء الذين جعلوا من العلم رسالة ومن الدين جهادا، وكونوا عونًا لهم. لا تظنوا أن الدين وديعة مودعة في صدور العلماء وحدهم، بل هو أمانة في أعناق الأمة كلها. فكلنا، أيًّا كان مقامنا، من رجال هذا الدين، وممن يُسأل عن بلائه فيه.
قفوا إلى جانب من بقي من العلماء العاملين، فإن فيهم بقية من نور الهداية، وفي كلماتهم شعاع من فجر لا بد أن يطلع.