الشريان والوريد وتطبيق ذلك في الحياة.. ومأساة غزة التي عرّت الجسد العالمي


بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في داخل الجسد البشري، تعمل منظومة عجيبة ودقيقة بين الشريان والوريد. الشريان يندفع بالحياة إلى الجسد، يضخّ الأوكسجين والأمل إلى الأطراف، بينما الوريد يعود حاملاً الأعباء والفضلات ليتطهّر القلب منها ويبدأ دورة جديدة. لا شريان يزهو بنفسه، ولا وريد يكتئب من وظيفته، بل تناغم عظيم يُبقي الإنسان حيًا.

لو تأملنا هذا النموذج الرباني البديع، لوجدنا أنه لا يصلح للجسد فقط، بل للحياة كلها. نحن نعيش بين من يضخّ الأفعال ومن يتلقّى، بين من يعطي ومن يُصغي، بين من يقود ومن يُوازن. التكامل لا التنافس، المشاركة لا الهيمنة، التواصل لا القطيعة. هذه هي قواعد البقاء في الجسد كما في المجتمع.

لكن حين يُصاب الجسد بخلل في شريانه أو وريده، يمرض. وعندما يصيب الخلل ضمير الإنسانية، تموت الأرواح، وتُخنق المبادئ، كما يحدث الآن في غزة.

غزة اليوم، هي الشريان الذي ينزف، والوريد الذي جفّ، والدماء التي لا تجد من يُعيد لها الأوكسجين. أهلها يموتون ببطء، ليس فقط تحت القصف والجوع والحصار، بل أيضًا تحت وطأة التجاهل، والإعلام الأعمى، والضمائر الصمّاء. أجساد الأطفال تُقطّع ببرود، ووجوه الأمهات تغرق في التراب، والآباء يتوسدون الموت كأنه راحة من عجزهم عن إنقاذ من يحبون.

غزة الآن تنادي شرايين هذا العالم أن تضخّ شيئًا من الرحمة، وتنادي الأوردة أن تعيد دم المروءة إلى قلب الإنسانية. لكنها تصرخ وحدها، كأنها خارج هذا الجسد العالمي المريض.

أين الشريان الأوروبي؟ أين الوريد العربي؟ أين شرايين القوانين الدولية التي تدّعي حماية الضعفاء؟ أين أوردة المنظمات التي تعبّ من موائد الدعم لكنها لا تصل طفلًا جائعًا بخبزة أو دواء؟ مات الضمير، وبات العالم الحر عبدًا لمصالحه، عبيدًا لصمته، محرومًا من الأوكسجين الأخلاقي.

لقد عرّت غزة الجسد العالمي، وكشفت أنه جسد بلا دورة دموية، بلا قلب حي، بلا وريد يشعر، ولا شريان ينبض. والأنكى من ذلك، أن هذا الجسد الميت لا يخجل، بل يواصل حياته الزائفة، مؤتمرات وابتسامات ووعود خاوية.

في كل بيت يُقصف في غزة، يموت جزء من إنسانيتنا. في كل طفل يئن جوعًا ولا يجد من يغيثه، يتجلّى عطب هذا العالم. في كل أم تمسك بيد وليدها تحت الأنقاض وتبكي دون صوت، ينهار الشريان وتتوقف الدورة.

وهنا تعود بنا الحياة إلى معناها الأعمق: لا صلاح لحياة، لا صلاح لأمم، ما لم يكن هناك شريان للحق، ووريد للعدل. وما لم يكن في كل قلب بشري نبضٌ لفلسطين، فلن تكون هناك حياة حقيقية.

فإن كنت ترى نفسك شريانًا في هذه الحياة، فاضخ رحمةً وعدلاً، وإن كنت وريدًا، فاحمل الأوجاع إلى قلب ضميرك لعلّه ينبض يومًا، ويعيد للدورة حياتها.

وغزة… ستظل رغم كل شيء، قلب هذه الأمة النابض، مهما حاولوا قطع شرايينها أو تجفيف وريدها. لأنها لا تموت، بل نحن الذين نكاد ندفن إنسانيتنا ونحن أحياء.

خاتمة مروعة لما آلت إليه حياة العرب المكبلين بالأغلال:
وغزة تصرخ، والعرب صامتون، ليسوا أمواتًا لكنهم مكبلون، لا بالسلاسل الحديدية بل بأغلال الخوف، وأصفاد الذل، وقيود التبعية العمياء. أمة كانت يومًا قلب العالم النابض، صارت اليوم جسدًا واهيًا يتلقى الطعنات بصمتٍ مخزٍ، بلا رد، بلا صرخة، بلا دمعة حقيقية.

صار العربي يختنق في صوته، ويُدفن حيًا في صمته، ينظر إلى المذابح كأنها مشاهد سينمائية، ويُبدّل القناة حين يرى طفلاً غزيًا يحتضر. أصبحت الشهامة ذكرى، والمروءة مجرد عنوان في كتب التراث، والكرامة كلمة يُمنع تداولها في نشرات الأخبار.

إنها نهاية مروعة لحياة أمةٍ فقدت شعورها، وصارت بلا وريدٍ ولا شريان، بلا نخوة ولا وجدان. أمةٌ تمشي على الأرض، لكنها ميتة من الداخل… أمواتٌ بأجهزة تنفس اصطناعية اسمها “البيان الختامي”، و”الإدانة الشديدة”، و”القلق العميق”.

وسيبقى السؤال يطاردنا حتى الموت:
كم من الدماء يجب أن تُسفك؟
وكم من الأطفال يجب أن تُسحق عظامهم؟
وكم من البيوت يجب أن تُهدم فوق رؤوس أهلها… حتى نصحو؟

أم أننا اخترنا أن نبقى، إلى الأبد، أمةً تتنفس الذل وتعيش على الهامش…؟