خطبة الجمعة القادمة ( الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ )للشيخ ثروت سويف

خطبة الجمعة القادمة تحت عنوان ( الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ) للشيخ ثروت سويف
( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا )

بتاريخ 23 محرم 1447هـ ، الموافق 18 يوليو 2025م

اقرأفي هذه الخطبة
أولاً : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ ثانياً: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
ثالثاً : نماذج للثبات على الحق والاعتصام باللهً

الخطبة الأولي
الحمد لله الذي جعل لنا من الإيمان والتوكل السبب العاصم الأقوى ، ومن الأوراد الشرعية حصنا حصينا نستدفع به الأعداء ، وحذرنا مسالك الشيطان وطرقه ، فهو نعم النصير ونعم المولى
الحمد لله حمداً طاب وانتشرا …على ترادف جود في الوجود سرى
الحمد لله حمداً سرمداً أبدا …ما أضحك الغيث وجه الأرض حين جرى
حمدا كثيرا به أرقى لحضرته …على منابر أنس أبلغ الوطرا
ثم الصلاة على ختم النبوة من …إذا تقدم كان الأولون ورا
مع السلام الذي يهدى لحضرته …يعم آلاً وصحباً سادة غررا
ونسأل الله توفيقاً لطاعته …ورحمة لم نجد من بعدها كدرا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ذو العظمة والكبرياء ، وذو الفضل العظيم والرحمة الواسعة والنعماء .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، سيد الرسل وإمام الأصفياء ، اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه النجباء ، وعلى التابعين لهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء

وبعد
فإن من أكبر المصائب التي ابتليت بها هذه الأمة وفتكت في سواعد قواها، وأطاحت برايات مجدها، الاختلاف والتفرق، وصدق الله عز وجل إذ يقول: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:45،
46].

أولاً : الاِتِّحَادُ قُوَّةٌ
أيها المؤمنون، إن من أهم عوامل قوة أمة من الأمم، الاتحاد، بالاتحاد تنال الأمم مجدها، وتصل إلى مبتغاها، وتعيش حياة آمنة مطمئنة، بالاتحاد، تكون الأمة مرهوبة الجانب، مهيبة الحمى، عزيزة السلطان.
إن تنمية الوعي بأهمية وحدة المسلمين كما يأمرهم الإسلام هي النقطة الأساس الأولى في سبيل التغلب على الواقع المؤلم الذي أوجده هذا التفرق وأفرزته هذه الإقليمية المقيتة.

عباد الله عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: ((لا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ)) رواه الإمام أحمد، وأصله في صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: « إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، ‌وَلَا ‌تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا .»
عباد الله! (إياكم والحسد؛ فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، (إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث)، (إياكم والبغضة -أي: سوء ذات البين- فإنها الحالقة)، (إياكم والظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة )).
أيها المؤمنون! عباد الله! عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أَنَّ النَّبِيَّ عليه السلام قَالَ: «‌الْمُسْلِمُ ‌أَخُو ‌الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، التَّقْوَى هَاهُنَا، حَسْبُ امْرِيءٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» مسند أحمد
وعن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أخبَرَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قالَ: «‌الْمُسْلِمُ ‌أَخُو ‌الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عن مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) البخاري
إن العقلاء من كل ملة ونحلة في القديم والحديث اتفقوا على أن الوحدة سبيل العزة والنصرة، فهذا معن بن زائدة الذي وصفه الذهبي بقوله: أمير العرب أبو الوليد الشيباني أحد أبطال الإسلام وعين الأجواد يوصي أبناءه عند وفاته بقوله:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى ……خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا……وإذا افترقن تكسرت آحادا

إن التاريخ يشهد أن من أهم أسباب سقوط الدول على اختلاف عقائدها ومللها التفرق والاختلاف، سقطت الخلافة العباسية بعد أن تفرقت الدول الإسلامية في ذلك الوقت، فنشأت الدولة البويهية، والمماليك، ودويلات الشام، ولم يبق للخلافة العباسية إلا مزع متفرقة متناثرة من العالم الإسلامي، فلما زحف المغول إلى بغداد لم يقف في وجه زحفهم غير أهل بغداد فقط، فأعملوا فيهم القتل حتى قتلوا أكثر من ثمانمائة ألف نسمة، كما قال غير واحد من المؤرخين.
وسقطت الدولة الإسلامية في الأندلس بعد أن أصبحت دويلات متفرقة متناحرة، لا همّ لأحدهم سوى التلقب بألقاب الملك والسلطان حتى ولو كان على بقعة لا تجاوز حظيرة خراف.

مما يزهدني في أرض أندلس …أسماء معتضد فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها…كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فيقول ربنا جل وعلا ( يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَكُم بُرۡهَٰنٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكُمۡ نُورٗا مُّبِينٗا (174) فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَٱعۡتَصَمُواْ بِهِۦ فَسَيُدۡخِلُهُمۡ فِي رَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَفَضۡلٖ وَيَهۡدِيهِمۡ إِلَيۡهِ صِرَٰطٗا مُّسۡتَقِيمٗا ( 175 ) النساء

فمن صدق الله ورسوله وأطاعهما فقد حقق الإيمان ، ومن قوي اعتماده وثقته بالله فقد حقق التوكل عليه ، والله نعم العون لمن به استعان . وقال تعالى آمرا بهذين الأصلين : { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } ، { قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } . فالزموا هذين الأمرين ظاهرا وباطنا ، فما خاب من توكل عليه وإليه أناب
ثانياً: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ

فهيا بنا نعتصم بحبل الله، كما أمر الله تبارك وتعالى قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].

فقوله: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ)) حبل الله: هو كتابه، وطرفه في أيدينا والطرف الآخر عند الله تبارك وتعالى، فمن استمسك به نجا، ونال رضوان الله تبارك وتعالى.

روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ»

روى البخاري وغيره في الصحيح وزاد الإسماعيلي في روايته: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم -سيد المتوكلين- خرج إلى الصحراء في غزوة يجاهد في سبيل الله, وفي الظهيرة تفرق أصحابه تحت الشجر ينامون، كل وضع رداءه لينام, وأخذ صلى الله عليه وسلم الشجرة الكبيرة فنام تحتها وخلع ثوبه وعلقه في الشجرة وبقي في إزار، فلما نام عليه الصلاة والسلام -ولكن كما يقول شوقي:

وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
أي: إذا لاحظتك عناية الله فنم ملء عينك, ونم ملء جفونك ولا تخف لقد نام النبي صلى الله عليه وسلم فأتى مشرك من المشركين فاخترط سيف الرسول عليه الصلاة السلام صلتاً بيده, وأيقظ الرسول عليه الصلاة والسلام, والرسول صلى الله عليه وسلم مضطجع أمامه، فيقول المشرك: من يمنعك مني؟ قال: الله! فاهتز المشرك خوفاً ورعباً وسقط السيف من يده, فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم السيف وأجلس المشرك، وقال له: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، كن خير آخذ، قال: عفوت عنك فأسلم الرجل ودعا قبيلته للإسلام فأسلموا عن بكرة أبيهم.

ورأيت شيخ الإسلام رحمه الله ذكر دعاء موسى عليه السلام في سيناء يوم سجد وقال: “اللهم إليك المشتكى, وأنت المستعان, وعليك التكلان, ولاحول ولا قوة إلا بك”.
وذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد أن موسى عليه السلام يوم أن كشف الغطاء عن البئر، ثم عاد إلى الظل قال: يا رب مريض فقير غريب جائع -موسى فيه أربع صفات هي: أنه فقير، ومريض، وجائع وغريب- فأوحى الله إليه: يا موسى! الفقير من لم أكن أنا مغنيه، والمريض من لم أكن أنا طبيبه، والجائع من لم أكن أنا مطعمه، والغريب من لم أكن أنا مؤنسه.
وقال ابن القيم في الفوائد: “من توكل على الله أكسبه عشيرة بلا عشيرة”.
{{ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في حديث قدسي يصححه بعض العلماء: قال وهب بن منبه يَقُولُ: قَرَأْتُ فِي كِتَابٍ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ تبارك وتعالى يَقُولُ: «بِعِزَّتِي إِنَّهُ مَنِ ‌اعْتَصَمَ ‌بِي وَإِنْ كَادَتْهُ السَّمَاوَاتُ بِمَنْ فِيهِنَّ، وَالْأَرْضُونَ بِمَنْ فِيهِنَّ ، فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهُ مِنْ بَيْنِ ذَلِكَ مَخْرَجًا، وَمَنْ لَمْ يَعْتَصِمْ بِي فَإِنِّي آخِذٌ بِهِ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْهِ الْأَرْضَ، فَأَجْعَلُهُ فِي الْهَوَاءِ، ثُمَّ أَكِلُهُ إِلَى نَفْسِهِ» تفسير بن كثير والزهد لأبي داود
هذه قدرة الله، وهذه قدرة غيره تعالى الله فاعتصم بربك والجأ إليه، وتمسك بحبله عز وجل.

فالذين يتصلون بغير الله جبناء وسفهاء, ولا يملكون شيئاً حتى ولو خططوا وملكوا ورصدوا ولو حاولوا فالقدرة قدرة الله, اسمع إلى الله تعالى وهو يقول: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 – 80].
واسمع اليه وهو يخاطب نبيه صلي الله عليه وسلم وامته من بعده فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لرسوله عليه الصلاة والسلام ولكل مسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] لأن الله لا يموت أما سواه فيموت، الأنداد, والأضداد, والهيئات, والمنظمات, والكيانات كلهم يموتون، والمطلوب منا ألا نخف إلا من الله، قال بعض المفسرين: إذا أردت أن تكون أشجع الناس فلا تخف إلا من الله, ومن خاف من غير الله, خوفه الله من كل شيء، ومن خاف الله خوف الله منه كل شئ

وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]
والتوكل فسره أهل العلم فقالوا: أن تفوض أمرك إلى الله، كما فعل موسى عليه السلام, أتى إلى البحر والعدو من ورائه فقال بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].

وكما فعل عليه الصلاة والسلام في الغار يوم قال لـ أبي بكر: {لا تحزن إن الله معنا} فنجاه الله.

وكما فعل الصالحون من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ويفعله الدعاة دائماً، أن تفوض أمرك إلى الله, قال تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر:44 – 45].
وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
ويقول تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
ويقول تعالى أيضاً: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26].

لا تهولنكم الأنظمة الكافرة, والكيانات الصادة عن منهج الله, ولو عظمتها أجهزة الإعلام, ولو ذكرت قواها, فإنها تبور أمام قوة الواحد الأحد.

ثالثا : نماذج للثبات على الحق والاعتصام باللهً

لقد أهمل الكثير أمر الدين، واستهانوا بحقوق الله ورسوله، وعبثوا بواجبات دين الإسلام، وتجرئوا على انتهاك حرمات الله، واستبدلوا ذلك بأخلاق الكفار وعاداتهم وتقاليدهم مع الأسف الشديد!

أيها المسلمون! إن المسلم الحقيقي لا يرضى لدينه بديلاً مهما كلفه الأمر، ومهما بذل من قبيل الكفرة من المغريات، أو ناله منهم من الأذى.
نعم.

إن المسلم يبقى أمام كل فتنة صلباً في دينه متمسكاً بعقيدته، ولنا في سلفنا مثالاً، فهذا بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه يشتد عليه أذى الكفار حتى أنهم يطرحونه على ظهره في رمضاء مكة الملتهبة بالحرارة، ويضعون الصخرة الثقيلة على صدره يريدون منه أن يترك هذا الدين، فيصمد ويثبت على دينه ويقول: [[أحدٌ أحد]] هذا مثال ضربه لكم بلال رضي الله عنه؛ ضربه للذين إذا قيل لهم أنت موسوس أو أنت مطوع انحرف وابتعد عن دين الله.

وهذا حبيب بن زيد يقول له مسيلمة الكذاب: قل لا إله إلا الله، فيعلنها ويقول: لا إله إلا الله، فيقول له مسيلمة: قل: أشهد أن مسيلمة رسول الله، فيقول: لا أسمع، ثم يقطعه مسيلمة عضواً عضواً ويأبى أن يقول: مسيلمة رسول الله حتى لقي ربه صابراً محتسباً، هكذا الابتلاء يا عباد الله.

وهذا عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه يأخذه ملك النصارى أسيراً عنده ويقول له: اتبعني وأشركك في ملكي، فيأبى ويقول: لا أبغي بدين محمدٍ صلى الله عليه وسلم بديلاً، ثم يحمي ملك الروم النحاس بالنار ويغلي القدور لتعذيبه، وعند ذلك يبكي عبد الله بن حذافة، فيطمع ملك الروم برجوعه عن الإسلام ويقول: تتبعني وتترك دينك، فيرد عليه عبد الله بن حذافة رضي الله عنه بقوله: ما بكيت خوفاً على نفسي، ولكن وددت أن يكون لي نفوساً عدد شعري تعذب في سبيل الله فتدخل الجنة بغير حساب.

وهذا عمار بن ياسر وأبوه وأمه سمية وأهل بيته عذبوا في الله ليتركوا دين الإسلام فصبروا على العذاب وتمسكوا بالإسلام، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهم وهم يعذبون ويقول: {صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة}.

وهذا خباب بن الأرت عُذب في الله وصبر على دينه، وكان من تعذيب المشركين له أن أوقدوا له ناراً وسحبوه عليها فما أطفأها إلا شحم ظهره لما ذاب، كل ذلك وهو صابر على دينه لا يتزحزح عنه قيد شعرة، وكانت أم أنمار وهي سيدته أشد حنقاً عليه من قومها فجعلت تجيء إلى خباب يوماً بعد يوم فتأخذ حديدة محمية من كيره الذي يلين فيه الحديد لصناعة السيوف، فتأخذ تلك الحديدة وتضعها على رأسه حتى يدخن رأسه، ويغمى عليه وهو يدعو عليها، واستجاب الله دعائه فقد أصيبت بصداع لم يسمع بمثل آلامه قط، فكانت تعوي من شدة الوجع كما تعوي الكلاب، وقام أبناؤها يستطبون لها في كل مكان فقيل لهم: إنه لا شفاء لها من أوجاعها إلا إذا دأبت إلى كي رأسها بالنار فجعلت تكوي رأسها بالحديد المحمى فتلقى من أوجاع الكي ما ينسيها آلام الصداع، وهكذا جزاء الظالمين يا عباد الله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] ألا فليحذر الذين يحدثون في دين الله ما ليس فيه أن يدعو عليهم الصالحون فتستجاب دعوتهم.
حنظلة يضحي بحياته في أيام عرسه
.
هكذا المسلمون الذين يغارون على دينهم، أما مسلمو هذا الزمان فهم يسمعون الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم فلا يجيبون داعي الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحنظلة رضي الله عنه يخرج من زوجته الجميلة ومن فراشه، وقبل أن يغتسل من الجنابة يلتحم في صفوف المسلمين ويخر صريعاً في سبيل الله إجابةً لنداء الله، والمسلمون الآن أكثرهم ولا حول ولا قوة إلا بالله تشكو إلى الله صلاة الفجر من أفعالهم، لا يعرفون الصلاة إلا في رمضان، فإنا لله وإنا إليه راجعون!
يقول ربنا سبحانه وتعالي -: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى [طه: 123]، ويقول – عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم ما إن اعتصمتُم به فلن تضِلُّوا بعدي أبدًا: كتابَ الله وسنتي»؛ خرَّجه مالك في “الموطأ”.

معاشر المسلمين:
وإن الوهَن الذي أصابَ الأمة، والضعفَ الذي حلَّ عليها كالغُمَّة، حتى انقلَبَت الموازين واختلفَت المقاييس، وانتكَسَت الرايات، واحلولَكَت الظلمات، وعلَت الفتنُ كأمواج البحار الهادِرة، وصار أفرادُ الأمة كضرائر الحسناء، وفشَت فيهم مُعضِلات الأدواء، فعَلا صوتُ الغوغاء فوق الحُكماء.

فالوحيُ كافٍ للذي يُعنَى به شافٍ لداء جهالةِ الإنسان
واللهِ ما قال امرؤٌ مُتحذلِقٌ بسواهما إلا من الهَذَيَان

وعلينا الاعتصام بالكتاب والسنة هو ان نتمسك بهما على فهم السلف الصالح وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين، قَالَ تَعَالَى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (115)} [النساء: 115]. روى أحمد في مسنده والترمذي وابن ماجه في سننهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَافْتَرَقَتِ النَّصَارَى عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وسَتَفْتَرقْ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيهِ وَأَصْحَابِي». أي: هم من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي.
قَالَ عَبدُ اللهِ بنُ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: «إِنَّ اللهَ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ، فَوَجَدَ قَلبَ مُحَمَّدٍ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ فَاصطَفَاهُ لِنَفسِهِ فَابتَعَثَهُ بِرِسَالَتِهِ، ثُمَّ نَظَرَ فِي قُلُوبِ العِبَادِ بَعدَ قَلبِ مُحَمَّدٍ فَوَجَدَ قُلُوبَ أَصحَابِهِ خَيرَ قُلُوبِ العِبَادِ فَجَعَلَهُم وُزَرَاءَ نَبِيِّهِ يُقَاتِلُونَ عَن دِينِهِ». ثُمَّ قَالَ: «مَن كَان مِنكُم مُستَنًّا فَليَستَنَّ بِمَن مَاتَ فَإِنَّ الحَيَّ لَا تُؤمَنُ عَلَيهِ الفِتنَةُ، أُولَئِكَ أَصحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا أَفضَلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، أَبَرَّهَا قُلُوبًا وَأَعمَقَهَا عِلمًا، وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا، اختَارَهُمُ اللهُ لِصُحبَةِ نَبِيِّهِ، وَلِإِقَامَةِ دِينِهِ، فَاعرِفُوا لَهُم فَضلَهُم وَاتَّبِعُوهُم عَلَى آثَارِهِم وَتَمَسَّكُوا بِمَا استَطَعتُم مِن أَخلَاقِهِم وَسِيَرِهِم فَإِنَّهُم كَانُوا عَلَى الهُدَى المُستَقِيمِ».

وقد وردت النصوص الكثيرة التي تحث على التمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بهما، قَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُون (3)} [الأعراف: 3]. وقَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم (43)} [الزخرف: 43]. وقَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُون (18)} [الجاثية: 18].

والتمسك بالقرآن والسنة عصمة للعبد من الضلالة وهداية له، روى مسلم في صحيحه والحاكم في مستدركه مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِوروى الحاكم في المستدرك مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيئَينِ لَن تَضِلُّوا بَعدَهُمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي»
وقد دلت الأحاديث أن من تمسك بما كان عليه صلى اللهُ عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء الراشدين كان من الناجين، روى أبو داود والترمذي في سننهما مِن حَدِيثِ العِرْبَاضِ بنِ سَارِيَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»

وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ جَابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رضي اللهُ عنهما: أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رضي اللهُ عنه أَتَى النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِن بَعضِ أَهلِ الكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فَغَضِبَ وَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ ! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا، مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي»

ومن المعلوم أن نبي الله عيسى عليه السلام عندما ينزل في آخر الزمان لا يأتي بشرع جديد، وإنما يحكم بشريعة النبي صلى اللهُ عليه وسلم، روى البخاري ومسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ».

قال النووي: «قوله: وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، فالصواب في معناه أنه لا يقبلها ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها، بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل، هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء»

إخوة الإسلام:
يقول الإمام مالك – رحمه الله -: “لا يصلُح آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح بها أولُها”، فإذا كان أولها صلَح بالكتاب والسنة فلن يصلُح آخرُها إلا بالكتاب والسنة.
أمة الإسلام:
لقد أمرنا الله تعالى بالرجوع إليه وإلى رسوله – صلى الله عليه وسلم – عند التنازُع والاختلاف، يقول – سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء: 59].

قال مجاهد – رحمه الله – في قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ: “أي: فرُدُّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -“.

وأخرج أهلُ السنن من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: « .. فإنه من يعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسُنَّتي وسنةِ الخلفاء الراشدين المهديين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدَثات الأمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة».

ولذلك فإن الواجبَ على الأمة الرجوع في المُشكِلات – لا سيما عند الأزمات – إلى الراسخين في العلم الصادقين في الدين؛ فهم أكثرُ الناس فقهًا وعلمًا، وأعلم الناس بالحلال والحرام ومقاصد الأحكام، الذين يعرفون المُحكَم من المُتشابِه، كما جاء عنهم في قوله – سبحانه -: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [آل عمران: 7].

فالرجوع للعلماء الراسخين في العلم – لا سيما في زمن الفتن والنوازل – ليس اختيارًا؛ بل هو فرضٌ شرعي، وأمرٌ إلهي.

يقول تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83].

ومن منارات ودلائل الاهتداء في الفتن: البُعد عن كل ما يُفضِي إلى الفُرقة والاختلاف؛ ومن ذلك: ما يحصُل من بعض المُجادَلات العقيمة التي تُثير الشحناء والبغضاء، فقد كرِه النبي – صلى الله عليه وسلم – من المُجادَلة ما يُفضِي إلى الاختلاف والتفرُّق؛ فقد روى الترمذي في “سننه” أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – خرج على قومٍ من أصحابه وهم يتجادَلون في القدَر، فكأنما فُقِئَ في وجهه حبُّ الرمان، وقال: «أبِهذا أُمِرتم؟ أم إلى هذا دُعيتُم؟ أن تضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض، إنما هلكَ من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ الله بعضَه ببعض

إن ركوبَ موجة النَّعَرات الطائفية الجانحة المُتدرِّعة بحُجَجٍ واهية – وفي هذه الآونة تحديدًا – لم يكن من دَيدَنه إلا تصديرُ الفتن والقلاقِل والبغضاء، وصناعةُ الزوابِع والشحناء، وإفسادُ العلاقات البريئة بين أفراد المجتمع الواحد، وبين أفراد الأمة جمعاء؛ تشتيتًا للوحدة الإسلامية، إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 92]، دون عقلٍ رادِع، ولا ضميرٍ وازِع.

وإن من المُقلِق للغَيُورين: أن تلكم النَّعرات الرَّعناء قد أمِرَ أمرُها وازداد، وتوسَّع مدُّها وارتاد، ولكن دون إنصافٍ أو سداد؛ حيث تتناولُ الحقائقُ المُدلَّلة الراسخة بالمُغالطات الماسِخة، وتتصدَّر الحقَّ الصُّراح، بالتمويه والجُناح، وأسانيد مبتورة الجَناح.
ولعَمرُ الله؛ إنه لا فوز للأمة وسعادة للخلق إلا بالدين الحق على هدي الوحيَيْن الشريفين.

وإن كتابَ الله أعدلُ حاكمٍ فيه الشِّفا وهدايةُ الحيرانِ
والحاكمُ الثاني كلامُ رسوله ما ثمَّ غيرُهما لذي إيمانِ

وصدق الله العظيم حيث يقول في كتابه الكريم – وهو أصدق القائلين -: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام: 153].

بارَك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمٍ أثنَت بها الجوارِحُ والسرائر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لهَجَت بها الألسُن والضمائرُ، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أزكى الأوائل والأواخر، من اقتفى هديَه حازَ المآثِر والمفاخِر، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وذريَّته النجومِ الزواهِر، وصحابته البالغين أسمى البشائر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:
فاتقوا الله – عباد الله -، والزَموا دينَ الحق وما له من زكِيِّ الشعائر تفوزوا بخير الجزاء وعظيم الذخائر، وتُهدَوا إلى أسنَى الدلائل والبصائر.
معاشر المسلمين:
وفي خِضَمِّ هاتيك الأمواج وزخارِها الثَّجَّاج، واستشرافًا لآفاق مُستقبلٍ أزهرٍ أغرّ؛ لزِمَ المجتمعات والأمم أن يُعيدَا صياغةَ أذهان الجيل من الشباب والفَتَيات، وتنمية الوعي الإسلامي الصحيح لديهم، في تواكُبٍ لأحداث العصر ومُتطلَّباته، وتطوُّراته وتحدياته، واستنهاضِهم للاعتزاز بالهديَيْن الشريفين: كتابِ الله وسنةِ نبيه – صلى الله عليه وسلم -؛ تحقيقًا لوحدة الأمة، وترسيخًا لأُخُوَّة الإسلام.
كُن في أمورك كلِّها مُتمسِّكًا بالوحي لا بزخارِفِ الهَذَيَانِ
واتبَعْ كتابَ الله والسننَ التي جاءت عن المبعوثِ بالفُرقانِ

أيها الإخوة الأحبة في الله:
تمسَّك بحبل الله واتبعِ الهُدى ولا تكُ بدعيًّا لعلك تُفلِحُ
ودِن بكتابِ الله والسننِ التي أتت عن رسول الله تنجُو وتربحُ
قال الإمام مالك: «لَا يَصلُحُ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ إِلَّا بِمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا، وَمَا صَلَحَ بِهِ أَوَّلُهَا كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةُ نَبِيِّهِ صلى اللهُ عليه وسلم». روى الطبراني في معجمه الكبير مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ مَسعُودٍ رضي اللهُ عنه: «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى أُنَاسٍ فِي المَسجِدِ يَنتَظِرُونَ الصَّلَاةَ وَهُم حِلَقٌ، وَفِي كُلِّ حَلقَةٍ رَجُلٌ وَفِي أَيدِيهِم حَصَى، وَرَجُلٌ يَقُولُ لَهُم: سَبِّحُوا مِئَةً فَيُسَبِّحُونَ، كَبِّرُوا مِئَةً فَيُكَبِّرُونَ، هَلِّلُوا مِئَةً فَيُهَلِّلُونَ، فَقَالَ لَهُم: عُدُّوا سَيِّئَاتِكُم، فَأَنَا ضَامِنٌ أَن لَا يَضِيعَ مِن حَسَنَاتِكُم شَيءٌ، وَيحَكُم يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليه وسلم مَا أَسرَعَ هَلَكَتَكُم! هَؤُلَاءِ صَحَابَةُ نَبِيِّكُم صلى اللهُ عليه وسلم مُتَوَافِرُونَ، وَهَذِهِ ثِيَابُهُ لَم تَبلَ وَآنِيَتُهُ لَم تُكسَرْ، وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّكُم لَعَلَى مِلَّةٍ هِيَ أَهدَى مِن مِلَّةِ مُحَمَّدٍ، أَوَ مُفْتَتِحُو بَابَ ضَلَالَةٍ؟ قَالُوا: وَاللهِ يَا أَبَا عَبدِ الرَّحمَنِ، مَا أَرَدنَا إِلَّا الخَيرَ! قَالَ: وَكَم مِن مُرِيدٍ لِلخَيرِ لَم يُصِبْهُ؟ ! »
قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]. قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «حِينَ تَبيَضُّ وُجُوهُ أَهلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، وَتَسوَدُّ وُجُوهُ أَهلِ البِدعَةِ وَالفُرقَةِ»
أربعة يجلبون السعادة:
الأول: كتابٌ نافع.
الثاني: ابن بار.
الثالث: زوجةٌ محبوبة.
الرابع: جليسٌ صالح، وفي الله عوضٌ عن الجميع

حفظَ الله مصرنا من شُرور الفتن كلِّها ما ظهر منها وما بطَن، وأدام علينا نعمةَ الأمن والإيمان والاستقرار والرخاء، إنه وليُّ التوفيق والسداد والرجاء.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا – رحمكم الله – على خير الورَى، كما أمركم بذلك – جل وعلا -، فقال – عزَّ من قائلٍ كريمًا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

وقد قال – عليه الصلاة والسلام – فيما أخرجه مسلمٌ في “صحيحه”: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فصلواتُ الله مع تسليمه ما جرى له في البحر فُلكٌ سَبْحُ
أبدًا تُهدَى إلى الخير الورَى من له في كُتْب الرحمن مَدحُ
أحمدُ والآلُ والصحبُ ومَنْ لهم يقفُو على الإثر وينحُو

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مستقرًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمن والاستقرار في بلادنا،
اللهم أعِذنا والمسلمين من مُضِلاَّت الفتن، اللهم أعِذنا والمسلمين من مُضِلاَّت الفتن ما ظهر منها وما بطَن، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المَدينين، واشفِ برحمتك مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احقِن دماء المسلمين، اللهم احفظ دينهم وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وأموالهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم إنا نسألك التوفيق لما تحبُّ وترضى يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

جمع وترتيب / ثروت علي سويف