معالم المواطنة الصادقة عند الأنبياء عليهم السلام في ضوء القرآن الكريم(1)
21 ديسمبر، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم الدكتور : حمزة عبد الله سعادة شواهنة
(باحث في الدراسات القرآنيّة – فلسطين).
بسم الله الرحمن الرحيم, والحمد لله ربّ العالَمين, والصلاة والسلام على خاتَم النبيّين, وعلى آله وصحبه أجمعين, أمّا بعد:
فقد أرسى الأنبياء عليهم السلام في مجتمعاتهم أرفعَ القيم الإيجابيّة، ومنها قيمة المواطنة، وتعدّ هذه القيمة واحدة مِن أبرز القضايا السياسيّة المثيرة للجدل، وﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮﻏﻢ ﻣﻦ عدﻡ ﺫِﻛﺮ ﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﺍﻟﻜﺮيم ﻭﺍﻟﺴﻨّﺔ ﺍﻟﻨﺒﻮﻳﺔ لهذا المصطلح ﺑﻠفظه صراحة, ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻭﺭﺩ ﻣﺎ يدﻝّ ﻋﻠﻰ مضمونه ﻛﺜيراً.
ولمّا ﻭﻗﻊ ﺧلط كبير ﰲ ﻣﻔﻬﻮﻡ الوطنيّة والمواطنة ﺑﲔ ﺍﻹﻓﺮﺍﻁ ﻭﺍﻟﺘﻔﺮيط، حيث وُجد صنف مِن الناس قدّس الوطن، واتخذه صنماً يُعبد، وبالمقابل وُجد صنف ثانٍ تجاهَل ﺣﻘﻮﻕ وطنه، في حين حصره صنف آخَر في مظاهر شكليّة، لذا جاء هذا المقال بعنوان (معالم المواطنة الصادقة عند الأنبياء عليهم السلام في ضوء القرآن الكريم)؛ وذلك لِتجلية معالِم المواطنة وفق رؤية قرآنية وسطيّة؛ تهتدي بمنهج الرسل عليهم السلام وتطبيقاتهم في رعاية هذا المفهوم.
معنى المواطنة
المواطنة في اللغة العربية مأخوذة مِن كلمة الوطن، أي: “المنزِل تُقيم به، وهو مَوطنُ الإنسان ومَحَلُّه. والجمع: أوطان، … وأَوْطَنَه: اتخذَه وطناً، يقال: أوطَن فلانٌ أرضَ كذا وكذا أي: اتخذَها مَحَلاًّ ومسْكَناً يُقيم فيها…، والموطن: المشهَد مِن مشاهد الحرب، وفي التنزيل العزيز: {لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ}[آل عمران: 31]”.([1])
وأمّا مصطلح المواطنة في التعريف الإسلامي، فهو ينطلق مِن خلال القواعد والأُسس التي تُبنى عليها الرؤية الإسلامية لعنصرَي المواطنة، وهما:
الوطن والمواطن،
وبالتالي فإنّ الشريعة الإسلامية ترى أنّ المواطنة: تعبير عن الصلة التي تَربط بين المسلِم باعتباره فرداً مع عناصر الأمّة، وهُم: الأفراد المسلمون والحاكم، وتُتَوِّج هذه الصلات جميعاً الصلة التي تَجمع بين المسلمين وحكّامهم مِن جهة وبين الأرض التي يُقيمون عليها مِن جهة أخرى، وبمعنى آخَر فإنّ المواطنة: تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام وهي (وطن الإسلام) وبين مَن يُقيمون على هذا الوطن مِن المسلمين وغيرهم.([2])
*نماذج مِن معالم المواطنة الحقّة في هدي الرسل عليهم السلام مِن خلال القرآن الكريم
أرسى منهجُ المرسلين عليهم السلام قيمةَ المواطنة في مجتمعاتهم، والمتأمّل في سُوَر الذِّكر الحكيم، يلحظ أنّ الدعوة إلى التحلّي بتلك القيم قد تجلّت في أكثر مِن موضع، وذلك في سياق مخاطبة الرسل عليهم السلام، وسأكتفي بذكر شاهد على ذلك، ومِن تلك المعالِم ما يـأتي:
1- ذِكر فضائل الأوطان: ومِن الأوطان التي ثبتت فضائلها على ألسنة الرسل عليهم السلام في القرآن الكريم الشام ومصر، وممّا ورد في فضل الشام، ما جاء على لسان الكليم موسى عليه السلام لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}[المائدة: 21].
كما ورد في فضل مصر قول الله تعالى حكايةً عن يوسف عليه السلام : {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ}[يوسف: 100]، فجعل الشَّام بدواً، كما قال المفسِّرون: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} أي: البادية، فكانوا أهل بادية وماشية،([3]) وفي ذِكر البدو إظهار لتمام النعمة؛ لأنّ في انتقال أهل البادية إلى سكنى المدينة نوعاً مِن الحضارة؛ لمَا في سكنى البادية مِن الشرور، وكما قال U حكايةً عن يوسف u أيضاً: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}[يوسف: ٩٩]، وكما في قوله U: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}[يوسف: 55].
ونخلص مما سبق أنّ ذِﻛــﺮ ﻓــﻀﺎﺋﻞ اﻟــﻮﻃﻦ علامة على الانتماء الصادق له، وتنمية لمعاني المحبة بين أبنائه، وشحذاً لِلهِمم في الدفاع عن حياضه، مِن هنا دﻋﺎ الرسل والأنبياء عليهم السلام إﱃ تعزيز هذه اﻟﻘﻴﻤـﺔ العظﻤـﻰ؛ وذلك لمَا لها مِن آثار طيِّبة على المجتمع، وبالتالي فقَمِنٌ بالمسلم أن يعرف قدْر وطنه، وينشر محاسنه في الآفاق.
2- الحنين إلى الوطن: فلمّا اشتدَّ حنين النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم إلى وطنه مكّة، أنزل الله U عليه قرآناً يبشِّره بالعودة إلى موطنه الذي أحبّه، وذلك في قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[القصص: 85].
وهذا كليم الله موسى عليه السلام يحنّ إلى وطنه بعد أن خرج منه إلى مَدين مُكرَها، كما قصّ الله تعالى : {فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا}[القصص: 29].
3- الدعاء للوطن: إذ لا يقتصر حبُّ للوطن على المشاعر القلبيّة فحسب، بل يتجلَّى في الأقوال والسلوك أيضًا، ومِن أصدق ما يتجلَّى به حبّ الوطن الدعاء، حتى وإن تعرّض المسلم مِن ظلم على أيدي بعض أبناء وطنه, وقد رفع الأنبياء عليهم السلام أكفّ الضراعة إلى الله تعالى بأن يَحفظ أوطانهم، ومِن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام الذين تتابعت دعواتهم لأوطانهم الخليل عليه السلام ، حيث أخبر الله تعالى عن خليله إبراهيمَ u أنه دعا لمكّة المكرّمة بالسلام وسعةِ الرزق وسلامةِ العقيدة، فقال تعالى على لسان نبيّه إبراهيم عليه السلام : {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ}[البقرة: 126]، وقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا}[إبراهيم: 35].
4- الحرص على إصلاح الوطن ومصلحة أبنائه: إذ الحرص على مصلحة أبناء الوطن في الدنيا والآخرة أمر ملحوظ في هدي الأنبياء عليهم السلام جميعهم، وتَمثَّل حرص الأنبياء عليهم السلام على مصلحة وطنهم، وشفقتهم على أقوامهم في مظاهر عديدة، حيث دأب العديد مِن الرسل عليهم السلام على استعمال الأسلوب الرقيق أثناء خطابهم لأقوامهم، كما أكّد الله U حرص رسوله الكريم محمّد r على هداية قومه بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة: 128]، كما أنّ مراجعة دعوات الأنبياء والرسل عليهم السلام تبيِّن أنّ كلّ واحدٍ منهم قد بدأ مَهمّته الرسالية مِن أبناء وطنه، نقرأ في هذا الباب قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}[الشعراء: 214]، وﺍﻟﻣﺳﺗﻘﺭﺉ لمسيرة الرسل المباركة، ﻳﺗﺑﻳّﻥ ﻟﻪ ﺑﺟﻼء ﺃﻥّ مبناﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﻋﺎﻳﺔ ﺍﻟﻣﺻﺎﻟﺢ جميعها -سواء كانت دنيويّة أم أخرويّة-، فهذا شعيب u على سبيل المثال يوضّح أنّ مقصده ﺍﻹﺻﻼﺡُ العامّ ﺑﻣﻧﺗﻬﻰ ﺍﻻﺳﺗﻁﺎﻋﺔ، كما في قوله U: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود: 88].
وقد جاء الأمر بعمارة الوطن على لسان صالح عليه السلام : {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}[هود: 60].
نخلص ممّا سبق أنّ المواطنة في ضوء منهج الدعوة عند الأنبياء عليهم السلام تفرض على أبناء الوطن عدّة واجبات تجاه أوطانهم؛ رعاية لحقّها عليهم؛ وذلك لأن المواطنة الحقّة لا تكون بمجرّد الشعارات، بل هي في الحقيقة مرتبطة بسلوك المواطن المحبِّ لوطنه.
ويتبيّن ممّا سبق أنّ المسلم أعمق الناس حبّاً لوطنه، وأعظمهم نفعاً لغيره؛ لأن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص فيها.
وجملة القول: أنه يتعيّن على الوطنيّ الغيور ألاّ يَنبذ حبّ الوطن، وفي المقابل لا يتّخذه وثناً يُعبد مِن دون الله U، بل يتعيّن عليه أن يحبّ وطنه -سواء كان الوطن بالمفهوم الخاص أو العام- حبّاً شرعيّاً، ينضوي تحت لواء محبّته لدينه.
وصلوات الله وسلامُه على أشرف خلْقه وتاج رسُله محمد وعلى آله وصحبه, وأسأله تعالى أن يؤمّننا في أوطاننا، وآخِر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين.
[1] ابن منظور: لسان العرب، (وَطَنَ)، (13/ 451).
[2] انظر، د. فهمي الهويدي، مقال بعنوان: المواطنة في الإسلام، جريدة الشرق الأوسط, ص 13.
[3] انظر، ابن كثير: تفسير القرآن العظيم. (4/ 412).