لغتناهويتنا

بقلم أ.د/ مها محمد عبد القادر أستاذ أصول التربية كلية التربية للبنات بالقاهرة – جامعة الأزهر

تعد اللغة العربية الوعاءَ الحافظَ لهوية الأمة، والمرآة الصادقة لوجدانها، والحافظة لتاريخها وحضارتها، فهي منظومة فكرية وثقافية وقيمية متكاملة، تشكل وعي الشعوب، وتحدد ملامح شخصيتها، وترسم حدود انتمائها الحضاري، ومن ثم، تتأكد مكانة اللغة العربية كأحد أهم مقومات الهوية العربية والإسلامية، ومرتكز رئيس في بناء الأمة وصون كيانها، حيث لا تقوم أمة بغير لغة، ولا تستقيم حضارة دون لسان يعبر عنها ويحمل رؤيتها للعالم، وللغة العربية بعد ديني فهي لغة القرآن الكريم، ووسيلة فهم نصوص الدين، وأداة إدراك قيم الإسلام العميقة، فالفهم الصحيح للشرع والقرآن لا يتحقق إلا من خلال إدراك اللغة التي أنزل بها الوحي فهي حياة.

وقد ارتبطت اللغة العربية منذ نشأتها بتاريخ أمة بنت حضارة إنسانية ممتدة، أسهمت في إثراء الفكر البشري في مجالات العلم، والفلسفة، والأدب، والفنون، وكانت العربية على مدار قرون طويلة لغة العلم والمعرفة، تدرس بها العلوم، وتؤلف بها الكتب، وتنقل عبرها الخبرات الإنسانية من جيل إلى جيل، وجاء ذلك نتيجة لما تمتلكه هذه اللغة من مرونة بنيوية، وثراء دلالي، وقدرة فائقة على الاشتقاق والتوليد، واستيعاب المفاهيم المستحدثة، والتكيف مع التحولات الفكرية والعلمية دون أن تفقد جوهرها أو أصالتها، وقد ساهم هذا الثراء في أن تصبح العربية وعاء للعلوم الشرعية والدنيوية على حد سواء، حيث أتيح للمسلمين من خلالها فهم القرآن والسنة، وتطوير علوم الفقه والتفسير وأصول الدين، ما جعل اللغة العربية عنصراً أساسيًا في الحفاظ على الهوية الدينية والحضارية للأمة.

وتتضاعف مكانة اللغة العربية حين ندرك ارتباطها الوثيق بالدين الإسلامي، ارتباطًا جعل منها لغة عقيدة ورسالة، فقد اختارها الله تعالى وعاءً للوحي الخاتم، فأنزل بها القرآن الكريم ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾، لتكون لغة الهداية الإلهية، وحاملة القيم الكبرى التي تنظم علاقة الإنسان بربه، وبالكون، وبالآخرين، وكان هذا الاختيار الإلهي دلالة على ما تمتلكه العربية من قدرة فريدة على حمل المعاني العقدية، والتشريعية، والقيمية، بأعلى درجات الدقة والاتساع.

ومن ثم فإن فهم الإسلام واستيعاب مقاصده الكبرى لا ينفصل عن فهم اللغة العربية؛ حيث تشكلت علوم القرآن، والحديث، والفقه، والتفسير، وأصول الدين جميعها داخل الفضاء اللغوي العربي، وتقوم في جوهرها على إدراك دقيق لبنية النص ودلالاته وأساليبه، وبالتالي، فإن الحفاظ على اللغة العربية مسؤولية دينية وحضارية، وذلك لأن التفريط في اللغة يؤدي بالضرورة إلى ضعف الفهم، واضطراب التأويل، وتشوه الوعي الديني، وفتح الباب أمام قراءات متجزئة أو مشوهة أو مغلوطة للنصوص الشرعية.

أسهم الإسلام بدوره في حفظ اللغة العربية ونشرها، حيث انتقلت الرسالة مع انتقال اللغة، وانتشرت اللغة العربية مع اتساع الدولة الإسلامية، لتصبح لغة جامعة لشعوب متعددة الأعراق والثقافات، دون أن تفقد هويتها أو تنصهر في غيرها، وهكذا قامت علاقة جدلية فريدة بين العربية والإسلام؛ فالعربية حفظت النص المقدس، والإسلام حفظ العربية، وكان بقاؤهما معًا شرطًا لبقاء الوعي الحضاري والديني للأمة واستمرار رسالتها التاريخية، وقد أتاح هذا الربط الفريد للعربية أن تصبح وسيلة للحفاظ على التقاليد الدينية، ونقل علوم الدين عبر الأجيال، دون أن تفقد الرسالة روحها أو قيمتها.

وتعد اللغة العربية الركيزة الأساسية للوحدة الثقافية بين أبناء الأمة، على اختلاف أقطارهم وتنوع بيئاتهم، فهي الرابط المشترك الذي يجمع شعوبًا متباعدة جغرافيًا، ويوحد بينها وجدانيًا وفكريًا، وحين تضعف اللغة في نفوس أبنائها، تضعف هذه الوحدة، ويحل محلها التشتت، ويغدو الانتماء ضعيفًا وقابلًا للاختراق، في ظل هويات وافدة لا تعبر عن روح الأمة ولا تاريخها، وبناء عليه، فإن الحفاظ على العربية يعني أيضًا صون وحدة الأمة الإسلامية، وحماية قيمها من التشوه أو التلاشي.

وتواجه اللغة العربية تحديات كبيرة، تتراوح بين الإهمال المتعمد، والتهميش غير المباشر، والتغريب الثقافي الذي يسعى إلى فرض لغات أخرى بوصفها رموزًا للرقي والحداثة، وقد أسهمت بعض الممارسات الخاطئة في تعميق هذه الأزمة، مثل ضعف تعليم اللغة في المؤسسات التربوية، والاعتماد على أساليب جافة تنفر المتعلمين، والاستخدام المفرط للعامية، والخلط اللغوي في وسائل الإعلام، مما أفضى إلى إضعاف مكانة العربية في الفضاء العام، وإيجاد فجوة لغوية وثقافية بين الأجيال الجديدة ولغتهم الأم، وهذا الوضع يهدد إدراك القرآن والسنة، ويجعل الأجيال القادمة أكثر بعدًا عن جوهر تعاليم الإسلام.

وحين تقصى اللغة العربية من مجالات العلم، والتكنولوجيا، والإدارة، فإنها تفقد جزءًا من فاعليتها الاجتماعية، ويُنظر إليها على أنها لغة تراث وليست لغة حاضر ومستقبل، وهو تصور خاطئ وخطير، لأنه يهدد الهوية الثقافية والدينية للأمة، ويفتح الباب أمام التبعية الفكرية والمعرفية، فلا يمكن لأمة أن تبدع أو تنهض أو تستقل بوعيها وهي تفكر بلغة غيرها، أو تستعير مفاهيمها دون تمحيص أو تأصيل، لأن اللغة حاملة لرؤية العالم ومنظومة القيم، بما في ذلك القيم الدينية.

إن الدفاع عن اللغة العربية لا يعني الانغلاق أو رفض تعلم اللغات الأجنبية، فتعلم اللغات الأخرى ضرورة حضارية للتواصل مع العالم، والانفتاح على منجزاته العلمية والمعرفية، غير أن الخطورة تكمن في أن يكون هذا التعلم على حساب اللغة الأم، أو أن يتحول إلى إحلال ثقافي وفكري يقصي العربية من مجالاتها الطبيعية، فالأمم المتقدمة تتقن لغات العالم، لكنها تفكر وتبدع بلغتها، وتبني مشروعها الحضاري والديني من داخل هويتها ويصدر للعالم.

وتتحمل المؤسسات التعليمية مسؤولية كبرى حيث يقع على عاتقها تطوير مناهج تعليم اللغة العربية، وتقديمها بأساليب حديثة توضح جمالها، وثراءها، ومرونتها، وتربطها بحياة المتعلمين وواقعهم، بدل اختزالها في قواعد جافة وتمارين معزولة عن السياق، كما ينبغي تأهيل المعلمين وتدريبهم ليكونوا سفراء حقيقيين للغة، قادرين على غرس حبها في نفوس الطلاب، وبناء علاقة وجدانية بينهم وبين لغتهم، فالمعلم العربي مربي للوعي الديني والثقافي، فهو مربي أجيال.

ويضطلع الإعلام بدور يعد أحد أخطر ساحات الصراع اللغوي في العصر الحديث؛ فالإعلام الذي يشيع لغة عربية سليمة، مبسطة، وجذابة، يسهم في رفع الذوق اللغوي العام، ويعيد الاعتبار للفصحى بوصفها لغة حياة، ولا يمكن إغفال دور الأسرة الحاضنة الأولى للغة، فالطفل يتلقى لغته الأولى داخل البيت، ومن خلال الحوار اليومي، والقصص، والقراءة الحرة المتنوعة، فالأسرة الواعية هي التي تدرك أن تنمية المهارات اللغوية لأبنائها استثمار في وعيهم وهويتهم ومستقبلهم، وأن تشجيع القراءة، والاعتزاز بالتحدث بالعربية، يمثلان خط الدفاع الأول عن اللغة والهوية الدينية والثقافية للأمة.

نوكد أن اللغة العربية لغة قادرة على الاستمرار والتجدد، متى توفرت الإرادة، والوعي، والرؤية، وقد أثبتت التجربة التاريخية أن اللغة التي تحمل أمة لا تموت مهما اشتدت عليها التحديات؛ فالعربية صمدت قرونًا طويلة، وواجهت محاولات الطمس والإقصاء، لكنها بقيت حية في وجدان أبنائها، ومن ثم يعد الحفاظ عليها حفاظ على الذات، والدفاع عنها دفاع عن الوجود الحضاري والديني للأمة، وإذا أردنا نهضة حقيقية، وتنمية مستدامة، واستقلالًا فكريًا، فلا بد أن نعيد للغة العربية مكانتها في الفكر، والتعليم، والإعلام، والحياة العامة، لأنها ببساطة هوية أمة، ومن فرط في هويته، فرط في مستقبله.