الدرس الصامت: حوار بين المعطف الأبيض وشواهد القبور

بقلم الدكتورة :تاليا عراوي كاتبة واخصائية في الأخلاقيات وناشطة في مجال حقوق الإنسان

يُحكى أن سلطاناً فاتحاً شعر بدنو أجله، فأوصى خلصاءه بثلاث وصايا غريبة: أن يحمل نعشه كبار أطبائه، وأن يُنثر الذهب والجواهر على الطريق المؤدي للمقبرة، وأن تخرج يداه من الكفن فارغتين يراهما الناس. أراد بذلك أن يبعث برسالة أخيرة: أن الطب مهما بلغ علمه لا يردُّ القدر، وأن المال الذي نُفني فيه العمر لن يصحبنا في الرحلة الكبرى، وأننا جئنا إلى الدنيا ونرحل عنها بصفر اليدين..

انما الانسان أثر..

ولم يكن هذا الوعي بالفناء وليد لحظة الاحتضار فحسب؛ ففي التقاليد العثمانية القديمة، كان السلاطين يضعون فوق رؤوسهم عمائم ضخمة تبدو للرائي كتاج مهيب، لكنها في الحقيقة كانت تُلفُّ من أكفانهم التي سيُدفنون فيها. لقد كان السلطان يحمل كفنه فوق رأسه أينما حل وارتحل؛ ليكون تذكيراً دائماً لنفسه ولرعيته بهشاشة الحياة الدنيا وحتمية الحياة الآخرة، ولكي لا تطغى سلطة الأرض على حقيقة السماء.

هذه الرسالة التي صاغها السلطان بوعي الكفن المحمول، هي ذاتها الحقيقة التي يحاول الطب المعاصر القفز فوقها؛ فبينما كان الأطباء في الماضي هم الشاهد الأول على تناهي القدرة البشرية، تحول الطب اليوم إلى حصن يحاول محاصرة الموت بدلاً من فهمه، محاولاً اختزال لغز الوجود في لغة المختبر المعقمة.

وفي هذا المقال، أشارككم تجربة تعليمية فريدة طبقتُها ولأول مرة مع طلابي في كلية الطب؛ حيث اخترتُ لهم مكاناً للتدريس لم يعتادوا عليه: المقبرة، آملةً في أن تدفع هذه التجربة القراء للتأمل في قضايا وجودية وأخلاقية جوهرية، غالباً ما ننساها نحن البشر، وبالأخص العاملون في القطاع الصحي الذين يميلون في كثير من الأحيان إلى تناسي تناهي القدرة البشرية وسط صخب التقنيات والبروتوكولات العلاجية.

إن تاريخ الطب، في جوهره السردي، يُقرأ غالبًا كمسيرة ظافرة وطويلة نحو غزو الطبيعة وإخضاع المادة، ومع ذلك يظل مسكونًا بما يمكن تسميته وهم جلجامش؛ ذلك السعي الأزلي والمحموم للهروب من تناهي الشرط الإنساني والبحث عن خلود بيولوجي زائف. ففي ملحمة جلجامش، يدفع الحزن الوجودي على موت أنكيدو الملك العظيم للبحث عن سر البقاء، ليكتشف في نهاية المطاف أن الفناء هو الحقيقة الكونية الوحيدة، وأن خلود الإنسان الحقيقي لا يكمن في استمرار نبضه، بل في أثره.

واليوم، لم يختفِ هذا القلق القديم، بل أُعيد إنتاجه كعقيدة تقنية حديثة؛ فمن خلال وعود تجميد الأجساد (cryonics)، وحبوب إطالة العمر، والقرصنة الحيوية للساعة الخلوية، يحاول العلم المادي اختزال لغز الوجود في سلسلة من الأعطال الميكانيكية التي يمكن إصلاحها. وهي ذات النظرة التي تتهاوى حين تصطدم بالبعد الإنساني والروحي للموت، كما يتضح في رواية “موت إيفان إيليتش” للأديب الروسي ليو تولستوي؛ حيث تُعد الرواية متوازياً أدبياً دقيقاً لنقد الحداثة، إذ يصوّر من خلال بطلها رجلاً عاش حياة سطحية محكومة بالرسميات والمظاهر، ليجد نفسه في النهاية في مواجهة موت مرعب ومعزول تسيطر عليه آلام جسدية ونفسية وروحية عميقة، وهي الرحلة التي تسلط الضوء على مفهوم الألم الشامل الذي غالباً ما يفشل الطب التقليدي في احتوائه. وفي حين لم يجد البطل عزاءه في العلاجات المادية، منحه الاتصال الإنساني الصادق مع خادمه السكينة التي يحتاجها للوصول إلى مرحلة القبول والسلام؛ وهذا المسار الإنساني هو تحديداً ما ضاع بشكل مأساوي في سياقات الطب الحديث. فقد انتقد إيليش ما أسماه طَبْننة الموت (Medicalization of Death)، مشيراً إلى أن الموت قد جُرّد من قدسيته ومعناه الوجودي ليتحول في العصر الحالي إلى مجرد مشكلة فنية أو عطل تقني يُعالج داخل أروقة المختبرات ووحدات العناية المركزة، بدلاً من كونه تجربة إنسانية تتطلب الرعاية والتعاطف لا مجرد التقنين الطبي. ومع ذلك، فإن هذا الانغماس في الآلة البيولوجية يتجاهل الحقيقة الوجودية الجوهرية التي تسبق وتتجاوز أي نظرة سريرية: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ (آل عمران: 185).

وفي خطوة رائدة تهدف إلى كسر هذا الإنكار التقني، ولأول مرة في تاريخ المناهج الطبية، تنعقد دورة في الأخلاقيات السريرية (Clinical Ethics) داخل أروقة المقبرة، حيث يتحول فضاء الموت من مكان للصمت والنسيان إلى مختبر حي للفكر والأخلاق. في هذا الفضاء، يُقتاد طلاب الطب بين قبور الأثرياء المترفة وقبور الفقراء المتواضعة، لا لمشاهدة الموت كظاهرة بيولوجية فحسب، بل لاختبار الموت كعامل مساواة أسمى. هناك، يدرك الطلاب في لحظة صدمة وجودية أن التراب قد سوّى بين الجميع، وأن الفوارق الطبقية والامتيازات الاجتماعية التي يواجهونها في العيادات والمستشفيات تتلاشى تماماً تحت ثقل الحقيقة الكبرى. وفي تدريب بليغ الدلالة، يُطلب من الطلاب محاولة استحضار التاريخ المرضي أو استقاء معلومات عن أصحاب هذه القبور، فلا يجدون أمامهم سوى الاسم، تاريخ الميلاد، وتاريخ الوفاة.

وهنا يكمن الدرس القاسي والعميق: فكل العلم الطبي، والتشخيصات المعقدة، والسجلات الصحية الحافلة التي نقدسها في المستشفيات، تتقلص في النهاية إلى هذه السطور الثلاثة. إن عجز الطلاب عن تقديم معلومات طبية أو اجتماعية، أو معلومات عن ثروة المتوفى أمام شاهد القبر يعلمهم أن المريض ليس ملفاً سيبقى في الذاكرة السريرية، بل هو كائن إنساني تذوي كل تفاصيله التقنية ليبقى فقط جوهره الروحي.

علاوة على ذلك، يتيح هذا التمرين لطلاب الطب مستقبلاً تقدير حقيقة جوهرية يغفل عنها الطب المادي؛ وهي أن رحيل المريض ليس نهاية المطاف، بل هو بداية لمعاناة إنسانية أخرى يسكنها الحزن والألم واللوعة لدى عائلته وذويه. إن الوقوف أمام القبور يعلم الطبيب أن هؤلاء الباقين خلف المتوفى يحتاجون إلى اللطف والرفق والتعاطف بقدر ما يحتاج المريض نفسه إلى العلاج. بل إن هذه المسؤولية الأخلاقية تبدأ والمريض لا يزال على سريره يصارع الألم؛ إذ يجب على الطبيب أن يتعامل مع ذوي المريض بأقصى درجات الاحترام والتقدير، مدركاً أن عائلة المريض شريكة في المعاناة وفي رحلة الاستشفاء معاً. فمن حقهم أن يجدوا في الطبيب قلباً رحيماً يستوعب قلقهم، ولساناً عفيفاً يحترم كرامتهم، ويداً تمسح على قلوبهم المكلومة قبل أن تمسح على جراح مريضهم، فاحترام الأهل وتقدير مشاعرهم ليس مجرد بروتوكول طبي، بل هو جوهر الرحمة التي تسبق الدواء.

فالموت هو الدرس الأسمى في الرحمة، وهو المعلم الذي يكسر الجمود السريري ويوقظ إنسانية الطبيب تجاه المتألمين من الفقد. وهنا يستحضر الطبيب الحكمة الخالدة للفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “كفى بالموت واعظاً يا عمر”؛ فهذا الواعظ الصامت يخبر الطبيب أن مهمته لا تنتهي عند توقف الأجهزة، بل تمتد لتكون بلسماً لقلوب المفجوعين الذين تركتهم يد المنون في مهب الحزن.

إن مواجهة الموت وجهاً لوجه، بعيداً عن أروقة المستشفيات المعقمة، هي ضرورة لتفكيك غطرسة المعطف الأبيض التي تُوهم الطبيب بأنه سيد الحياة والموت. هذا التحول البيداغوجي يهدف إلى زعزعة المنظور الأنطولوجي للطبيب، ونقله من وضعية المحارب البطولي الذي يرى في الموت هزيمة شخصية، إلى وضعية الرفيق الرحيم الذي يفهم أن الموت جزء من دورة الحياة. وفي المقبرةتتجلى قوة الطبيب كسراب هش أمام حتمية الفناء؛ حيث يعمل القبر المفتوح كـ “موقف حدّي” (Grenzsituation) بتعبير الفيلسوف كارل ياسبرز، وهو المفهوم الجوهري الذي يصف تلك الأحداث القدرية التي لا مفر منها—كالموت والمعاناة والذنب—والتي تقتحم رتابة الوجود اليومي لتعرّي محدودية الإنسان الجوهرية وتضعه وجهاً لوجه أمام حقيقة كينونته. وفي هذا الموقف الصادم، يواجه الكائن البشري حدود إمكانياته ويُجبر على تأمل العدم الذي جادل مارتن هيدجر بأنه هو ما يعطي للوجود معناه وقيمته الحقيقية، فاتحاً المجال لاكتشاف الذات الأصيلة والتحول نحو التسامي بعيداً عن زيف الروتين المعتاد. إن المقبرة، بهذا المعنى، تُسقط الألقاب وتُلغي الرتب العلمية، لتكشف عن هشاشة الهيكل البشري وتفرض تحولاً جذرياً من طب الجسد المادي إلى طب الروح الذي يعترف بالإنسان كمسافر مقدس؛ وهي ممارسة وجودية وأخلاقية عميقة رسخها النبي محمد ﷺ كأداة للضبط الروحي بقوله: “زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الآخِرَةَ” إدراكاً بأن الأجل هو ميقات إلهي لا يمكن لبروتوكول طبي خرقُه: “فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” (النحل: 61).

وتتجلى هذه الحقيقة الوجودية بأقصى صورها في مذكرات الجراح بول كالانثي في كتابه “عندما يغدو النفس هواء”. فبصفته طبيباً كان يمسك بمشرطه ليقرر مصائر الآخرين، ثم وجد نفسه فجأة مريضاً يواجه فناءه الخاص، لاحظ كالانثي أن “الموت، الذي كان مألوفاً لي في عملي، أصبح الآن يقوم بزيارة شخصية”. وأدرك أن التفوق العلمي ليس درعاً ضد القدر، وأن مهمة الطبيب الحقيقية ليست مجرد تأجيل الموت، بل مساعدة الإنسان على عبور عتبات الألم بكرامة. جادل كالانثي بأن ما يبحث عنه المريض في لحظاته الأخيرة ليس الأرقام والإحصائيات التي يختبئ خلفها الأطباء، بل الأصالة الوجودية والحضور الإنساني الحقيقي. وهذا يتردد صداه في تأملات سيمون دي بوفوار التي رأت في الموت فضيحة وجودية، لكنها الفضيحة التي من خلالها فقط نحدد قيمنا ومعاني حياتنا. وعندما يدرك الطبيب الشاب أن نَفَسَه هو الآخر سيغدو هواءً ويدرك أثر ذلك النفس المفقود على أهله ومحبيه، يتحول المعطف الأبيض من رداء للسطوة الموهومة إلى لباس للتواضع والانكسار الواعي؛ حيث يكف عن كونه درع الخبير المنفصل ليصبح رداء الشاهد الرحيم.

وفي هذا السياق، تبرز أخلاقيات الطبيب المسلم كنموذج عملي يربط بين العلم المادي والسمو الروحي. إن ميثاق الطبيب المسلم لا ينظر إلى الطب كمجرد مهنة تقنية، بل كفرض كفاية وعبادة تتقرب بها الروح إلى خالقها. الطبيب المسلم يدرك أن جسد المريض ليس ملكية خاصة يمكن العبث بها، بل هو أمانة استودعها الله عنده. لذا، فإن أخلاقياته تقوم على مبدأ الإحسان، وهو أن يعبد الله في مريضه كأنه يراه. إن الطبيب الذي يتشبع بروح الإسلام لا يرى في نفسه خالقاً للشفاء، بل سبباً ساقه القدر، مؤمناً بأن “وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ” (الشعراء: 80). هذا الإيمان يحرر الطبيب من عقدة التأله ويمنحه السكينة عند العجز البشري، محولاً العلاقة السريرية إلى عقد أخلاقي يقوم على الصدق، وكتمان السر، وصون كرامة المريض حياً وميتاً. فالطبيب المسلم هو حكيم قبل أن يكون تقنياً، يستمد حكمته من مدرسة النبوة التي جعلت من رعاية الضعيف ومواساة المنكسر أعظم القربات.

لقد أسس النبي ﷺ لمفهوم الطبيب الخادم بقوله: “سيد القوم خادمهم”، وحذر من كبرياء النفس الذي يمنع الاستبصار الروحي: “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر”. وبناءً عليه، فإن المعطف الأبيض ليس بردةً للملوك، بل هو ثوب الخدمة والعبادة. وقداسته الحقيقية لا تكمن في كونه أبيض ناصعاً، بل في كونه رثاً ومبللاً بدموع المواساة وعرق التعب في خدمة الأرواح- نسيجاً يحكي قصص المعاناة المشتركة. وكما يأمرنا الخالق: “وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا” (الإسراء: 37). إن رحلة كالانثي تخبرنا أن على الطبيب أن يدرك حقيقة الموت ليكون جديراً بأمانة الحياة. ومن خلال الاعتراف الأنطولوجي بحقيقة “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ” (البقرة: 156)، يتوقف الطبيب عن معاملة المريض كخريطة جينية أو رقم سريري، بل كخيط في نسيج إنساني مقدس؛ مما يجعله ممارساً للرحمة ، ومقدماً لجودة رحلة الروح على مجرد الحفاظ على الآلية البيولوجية.

وفي الوقت الذي يسعى فيه دعاة ما بعد الإنسانية وتجميد الأجساد إلى حبس الروح في قفص مادي، يسعى المعالج الروحي الحقيقي إلى تكريم الصدقة الجارية والأثر الذي لا ينقطع. لقد علمنا الهدي النبوي أن الجسد يفنى بينما يبقى الإرث: “إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” (صحيح مسلم). وفي هذا الضياء، لا يُقاس نجاح الطبيب بعدد السنين التي أضافها للجسد، بل بمقدار السكينة التي منحها للروح. وقد لاحظ المفكر إرنست بيكر في كتابه الشهير”إنكار الموت“ أن الحضارة الإنسانية ما هي إلا محاولة لإنكار الفناء؛ والطب، حين يفتقر للتواضع، يصبح آلية الإنكار القصوى. إن مواجهة حقيقة الموت تحطم هذا الجدار الزائف، وتعالج الانفصال الوجودي الذي يعصف بالطب الحديث، وتضمن أن تكون الرعاية الطبية فعلاً أخلاقياً يمتد أثره إلى ما بعد اللقاء السريري.

في الختام، إن الدرس الجوهري للأطباء هو أن المستشفى ليس حصناً منيعاً ضد المحتوم، بل هو محراب يلتقي فيه الزمني بالأبدي. ومن خلال الاعتراف بأننا جميعاً عابرو سبيل في هذه الحياة، يمكن للجيل القادم من الأطباء التخلي عن غطرسة جلجامش التكنولوجية لصالح حكمة الطبيب الفيلسوف والطبيب المسلم المتواضع. إنهم يتعلمون من خلال مدرسة المقبرة أن أعظم هدية يقدمونها للمريض ولعائلته المكلومة ليست وعود الخلود الكاذبة، بل الحضور الأمين في لحظة الضعف الإنساني. وفي صمت المقبرة، نجد التواضع لخدمة الروح قبل الجسد، مكرّمين حتمية رحلتنا جميعاً نحو الخالق: “إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ”.